«كان يا ما كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان» جملةٌ سحريةٌ بمجرد أن يبدأ بها « الراوي » كلامَه؛ تنفتحُ في مخيّلاتِنا بلادٌ عجيبة، وتدورُ أحداثٌ غرائبيّة، ونلتقي بشخصياتٍ لا تنسى مثل «سيف بن ذي يزن» والمارد «عيروض» وأخته «عاقصة» أو شخصياتٍ كرتونية مثل «شرشبيل» و«بابا سنفور» و«السنفورة» الجميلة في حكايات «السنافر» التي ابتكرها الرسام البلجيكي بيير كوليفورد، كذلك نُبحِرُ مع «جيم» و«سيلفر» والقراصنة الباحثين عن الذهب المدفون في «جزيرة الكنز» للاسكتلندي «روبرت ستيفنسون»، وفيما الساحرة «ميدوزا» الأسطورية التي انقلبَ شعرُها إلى أفاعٍ تُحوِّلُ الناظرَ إلى حجر صمٍّ، كنا نسبح مع «الحوت الأبيض» في أعماق المحيطات لنزور حضارات عتيقة… فمَنْ منّا لم تحكِ له جدتُه أو روى له جدُّهُ، أو حكا هو لأولاده حكاياتٍ يسترجعها من خزّانِ تراثٍ كونيٍّ لا ينضب؟
اليوم حين أشاهد بعضَ برامج الأطفال أشعر بحزن شديد على ضياع «شخصية الرّاوي»، واندثار فكرة «الحكاية» من نسيج حلقاتها، وأتذكرُ بحنينٍ جارف برامج الأطفال المميزة تلك التي عرضها لنا التلفزيون السوري كبرنامج «كان يا ما كان» من تأليف داوود شيخاني، مع شارته الموسيقية الرائعة: «هذا أوانُ الحكاية فلنستمعْ للكلامْ؛ ففي الحكاية غاية ومتعة وانسجامْ» من تأليف الراحل «فاهيه تمزجيان»، كذلك برنامج «حكايات عالمية» وشارته التي لا تنسى: «في قصص الشعوبْ؛ طرائفٌ لا تنتهي، وعالمٌ حلوٌ بهي، يسكنُ في القلوبْ» من تلحين الموسيقي حسين نازك.
ليس قولي تعلّقاً واهماً أو استرجاعاً يائساً لـ«أمجاد الماضي»، وأعلمُ جيداً أن «أطفالنا خُلقوا لزمانٍ غير زماننا»، وأن ما يتعرضون له الآن يفوق قدرة الجبال على تحمّله، لكنني أفتقد فعلاً ذاك التواصل الحميميّ الذي عشناه والودَّ الحنون في العلاقة بين الأجيال، تلك الألفة التي رسّختها برامج الأطفال التي ذكرتُها، إذ باتَ حال بعض أطفال اليوم كحال الطفل في الحكاية التي تقول:
«كان يا ما كان، في هذا العصر وهذا الأوان، طفلٌ يسألُ جدَّه بامتعاضٍ وسخرية: يا جدّي كيفَ كنتم تعيشون حياتكم من دون «فيس بوك» و«تويتر» و«ببجي» و«واتس أب» و«تيك توك»؟!، فيردُّ عليه الجدّ: يا ولدي تماماً مثلما تعيش حياتك اليوم من دون تربية، ولا عقل، ولا قيم»!