كانت كتلة الصخر الخام هائلة، صماء، خاملة، شاحبة، لا تفصح إلا عن وزنٍ ثقيل لا تزحزحه غيرُ رافعة جبارة عمياء هي الأخرى، حتى حين تفتح كلاباتها الحديدية لتحيط بجسد الكتلة وتنقلها من المقلع إلى حيث يروزها النحّات ويبدأ بإخراجها من عالمٍ إلى آخر ومن حالٍ إلى حالٍ لا يمتُّ إلى ماضيها بصلة، فالساحر هنا، سينتزع من الكتلة المهولة، جسداً فارعاً، برأسٍ متلعٍ إلى السماء وعينين ثاقبتين وشَعْرٍ كأمواج الضوء وعباءة سابغة تتهدل كالحرير الناعم من الكتفين حتى القدمين بسيورهما الجلديّين اللذين، بالكاد، يلامسان تراب الأرض أو غضارَها المعشب!
اكتمل التمثال وصار مثلَ قطعة الكريستال النقية، لكن النحَّات تسربل بالغبار وتشققت يداه وأرهقت بدنَه طلعاتُ السلّم والجلوسُ على السقالة والتعديلات العديدة على النِّسَب التي تحتاج إلى قياسات بأجزاء من الميلمتر، وربما عطش فلم يسمح له تسلسل العمل بشرب جرعة ماء، بلْهَ جاع فأشفق على تمثاله من الهجران في لحظة صعبة فأجّل الطعام! فكيف بالنوم والاستراحة أو الحمام أو بالاستجابة لزائر ومتحدث خالي البال، لا يحمل في جرابه غير الشكوى من هموم العيش التي تغذي أحاديثنا المرسلة في الجِدّ والتسلية؟ هي الحالة نفسها أراها في ذاك الذي يتعامل مع منتَجِ الصخر في المنجم! يأخذ الحجر الكريم الصغير براحة يده، ينفض التراب عنه بأصابعه ويتأمل عميقاً كأنه يتفرّس بحروف غامضة يريد استجلاء معانيها وفكّ طلاسمها، ثم يتحدث عن نقاء الحجر ولونه الذي يجعله أغلى بعد الصياغة، ويقول لك إنه سافر إلى العديد من عواصم العالم ليدرس خصائص الأحجار الكريمة ويعرف كيف يطوّعها للذهب والفضة والحرارة والنقش، وكيف أن المزاج الغربي يجنح إلى الفيروز بينما المزاج الشرقي يفضل العقيق! ولا ينتبه إلى دهشة الناظر إلى أصابعه مهشّمة الأظافر، متآكلة الأدَمة، عنّابية اللون، لكثرة ما حفّت الحصى وتخرّشت بالذؤابات الحادة المحيطة بالحجر الثمين قبل أن تنتزعه كاللؤلؤة من محارة وتضعه تحت صنبور ماء يقطر بهدوء وصبر، ويمضي بها إلى النّشر والتنعيم والصياغة!
الإنسان الذي استعصى عليه الخلود، لم يتخلّ عن حلمه بالديمومة، والبدن الذي خانه في هذا، بُذل برضى حين رأى الخلود مجسداً بالفن الرفيع، حال النحات والصائغ والنسّاجة التي تبدع اللوحة من نور عينيها وانحناءة ظهرها منكبّةً على عمل طويل مضنٍ لا تنتزعها منه دوّامةُ الحياة بكل آلياتِها البيولوجية. ذلك هو الجذر الذي أنتج الفن متحايلاً على الفناء والمرور على هذا الكوكب، مرورَ مواسم الزراعة في فصولها المحتومة، وذلك هو من ارتقى بالإنسان وجعله جديراً بمعجزة الحياة!