أنت صحفي؟ إذاً عليك أن تنهض منذ الصباح، مشرعَ الحواس، كما ينهض المؤمن إلى صلاة الفجر، لا تفوته حاضراً متوضّئاً، وعليك أن تُمضي الضّحى مع جموع الناس وهم يختلفون إلى أعمالهم ومشاغلهم وقوت يومهم، وإذا حلّ المساء لن تستطيع التواري في ركنٍ خافت الأضواء، تلتمس راحةً ذاتيّة مع فنجانٍ أو كأسٍ تخربش شعراً ووجدانيات على قصاصات ورق، ثم تطفئ المصباح وتستسلم لنُتَف أحلامٍ مضت وأخرى يصنعها خيالُك! لقد اخترتَ المهنة التي اختُصرت بصفة “المتاعب”! وما من مهنةٍ لا تحمل كماً هائلاً من الخصوصيّات والمتاعب، أما مهنتك هذه فلها ما وُصفَت به مهنة الجراحة من إجهادٍ وضنى ووطأة، تقصّر عمر صاحبها، لأن الانتباه المديد مع التركيز الشديد يسحب مخزون الطاقة النفسية والعصبية التي من غير المسموح نفادُها، كما يحصل في المناجم المتحوّلة إلى كهوفٍ خاملة بعد استهلاك كلّ خاماتها!
بعض الأدباء الذين مارسوا مهنة الصحافة رأوها محرقة للأفكار وذمّوها حين عادوا إلى ملعبهم الأصلي! ولم يكن هذا الذم نابعاً إلا من خلطهم بين مهنتين تتلاقيان حول الإنسان وتفترقان تماماً في أسلوب التوجه إليه أو الاهتمام بشأنه، فالصحافة راهنة، متقصّية، حيوية، مؤثرة، موجّهة، معالِجة، شاملة لكل علوم “العُروض” النفسية التي لا تحتمل الزمن الطويل في الطّهي! لهذا يغدو الصحفي في الأحداث الكبرى صدى للمشاعر الداخلية لدى الجموع! هم يعيشون الحدث لكنهم يعيدون قراءته معه، ربما لترميم الفجوات، وربما لاختبار المعرفة الكلية الشاملة، وربما لمواجهته بديلاً عن خيباتهم، لذلك كان للصحافة “نجومها” كمرجعياتٍ يُستشهَد بآرائها ومواقفها!
تأتيني هذه التداعيات في أيام الجمر المتّقد التي نعيشها، وأين وكيف يتموضع الصحفي السوري منذ عقد من الزمن، فيه كل يوم أقسى من سابقه، وفيه يزداد عديدُ المنضمّين إلى “نشيد الآلام” المتعلقة بالفِقْد والموت والفراق القسري والتهجير والقلق والفقر الذي يقترب يوماً بعد يوم من الفاقة، هو الذي يولّد ميكانيكياً، أعني الفقر، أهوالاً لم يعرفها الشعب السوري في تاريخه! الصحفي هو إنسان أو مواطن أيضاً، وليس قادماً من كوكب آخر للسياحة والتصوير وترتيب الملفات في مصنّفاته أو على جهاز الكومبيوتر، كما أنه ليس دجالاً يصنع حالات وهمية لمرضى يطرقون بابه لإحضار الغائب وفكّ السحر عن كنز مخبوء تحت حجر، وردّ الأبالسة عن عتبة الدار، لكنه، في الوقت نفسه ، مسؤولٌ بحكم المهنة التي زاولها براحة ما أيام السّلم، ومن الصعب أن يلقي مزماره ويلحق بالجموع متخلياً عن ذاته أو مهنته، وهو إذ يواجه كل هذه الأعاصير بوسعه، فقط، ألا يلقي بضِغثٍ على إبّالة ومعنى المثل لا يغيب عن أريب؛ (لا يضع بليّةً على أخرى)! وهذا حسبُه في زمننا الراهن!