– قبل أن تطبق كماشة العولمة بفكيها على مقدرات الكرة الأرضية بشراً وحجراً، لم يكن أي فرد وفي أي مجتمع كان ليشك بأن الإنسان هو ابن بيئته بالدرجة الأولى، حتى وإن حاول البعض – النُخب – تجاوز تلك البيئة الأم، تحت أي هدف، أو شعار كان، فلن يستطيع إلّا أن يكون ابنها البار بتاريخها الشفهي والمكتوب على حدٍ سواء ..
ووفقاً لهذا التصور، يمكن القول: إن أي تطور، في مجتمع ما، كان في الماضي القريب، يخضع للمتطلبات المادية والروحية الملحة والتي تفرضها عليه قوانين تطور أدوات إنتاجه، إضافة إلى المؤثرات الثقافية الوافدة، بمعنى التلاقح مع الثقافات الأخرى، ضمن شرطية زمنية، وظرفية اقتصادية، لا يمكن تجاوزهما بالشكل المطلق، مهما بالغت النُخب المكلفة بالتغيير، بقلب موازين تلك المعادلة، والتي كانت تلعب دور “بيضة القبان ” في التواصل بين الأجيال بالشكل الأمثل الذي يضمن استقرارها أثناء العملية التطورية، والتي لابدّ منها لأي مجتمع يرى بأن الإنسان السوي لن يتوقف عن الجري صعوداً فوق درجات سلم الارتقاء ..
– العولمة ببطانتها السوداء، تخلى مشروعها عن “بيضة القبان” تلك، لصالح فرض التبعية، غير الإنسانية، على الأجيال الجديدة، ما جعل تلك الأجيال في مهب الريح، فهي غير قادرة على التواصل مع أبنائها الشرعيين، بمعنى الانتماء الذي يلعب دور المحفز الأول في عملية التطور، وفي الوقت ذاته هي غير قادرة على السير في ركاب التطورات القسرية، ومتطلباتها المادية الاقتصادية التي فرضتها العولمة، والتي اسقطت من حساباتها ذاك العامل الأهم لإنجاح مشروعها، هذا في حال كانت العولمة تسعى لتكون نقطة فارقة إيجابية في تاريخ البشرية، كما يدعي القائمون على سيادة مشاريعها!!..
– لن يستطع أي فرد في المجتمعات الحديثة التخلي، بشكل تعسفي، عن منتجات العولمة، أو الوقوف في وجه هذا المد الجارف، وهذا الاعتراف لن يكون من باب اليأس، إلّا في حال تخلت النُخب عن أخذ دورها الريادي، في المجتمع الضيق، الذي حدد انتماءها، وجعل منه أجندة أولية عند الطبقات المهمشة، عبر التاريخ، ليكون مشروعاً إنسانياً متكاملاً، غايته سيادة العدالة والسلام الدائم فوق كوكبنا الأزرق: العولمة بردائها الأمريكي تسعى جاهدة لاستنبات دور النخب في تربة التبعية، تحت إلحاح الحاجة الدائمة للرفاه التي تقدمه لهم ليكونوا دائماً حجراً مضافاً دون اسم في حجرة اليأس: فإذا كان هذا هو الفهرس الأمريكي المفتوح، والواضح تبني تفاصيله، على مدار اليوم والساعة وربما الدقيقة أو الثانية الواحدة، ظناً منها بأنه هو الوحيد الضامن لسيادة مصالحها إلى الأبد، بمعنى؛ إذا كانت الولايات المتحدة ترى مصالحه بسيادة سيفها الفكري، والاقتصادي، والسياسي، على رقاب الجميع من الأمم الأخرى دون رحمة، تحت شعار ضرورة العولمة، فما هي مصلحة القتيل ليكون عبداً حتى أثناء نزفه، وأيضاً، تحت شعار ضرورة العولمة!!..