رحل الشاعر والباحث الناقد والأكاديمي المرموق الدكتور وفيق سليطين ملفّعاً بعباءة فجر كثيف، رحل في غمرة انشغاله بإنجاز بحث حول شاعر راحل آخر، تاركاً إرثاً وازناً من المجموعات الشعرية، والقصائد، والمقالات، والأبحاث النقدية التي كان آخرها ما أصدرته دار فواصل، تحت عنوان (في نقد الانغلاق الخصوصي). رحل في مجريات عمر الستين، وهو رحيل مبكّر بمقاييس الزمن الموضوعي، ومبكّر أكثر بمقاييس (الزمن الأبدي) الذي كان عنوان أبرز كتبه الذي حاز غير جائزة على المستوى العربي. ولنا أن نتساءل، في سياق الرحيل، عن وجود رحيل غير مبكّر، حتى لو جاوز الراحل عمر المئة؛ وهذا من طبائع الأمور البشرية التي ترى أن المرء يحتاج إلى عمرين، أو ثلاثة أعمار لكي ينجز ما يعنّ له إنجازه بحسب ما رآه يوماً دوستويفسكي.
شكل رحيله المفاجئ حزناً ثقيلاً, ولوعة كاوية لدى ذويه وأصدقائه، ولدى زملائه، ومعارفه القريبين والبعيدين أيضاً، ولكن الرحيل ترك أيضاً جوّاً عامّاً من الاندهاش، والإحباط والوجوم، وعدم التصديق. ويعرف جميعنا أنّ أي رحيل يخلّف مثل هذا الجوّ الشامل من الوجوم والافتقار إلى صلابة اليقين المترنّح في مواجهة ما يزعزعه من شعور متعاظم باللاجدوى التي تسود حياتنا كلّما واجه واحدُنا موتَ عزيز. لا شكّ في أنّ الكلمات تبهت وتشحب وتفقد كلّ تأثيرها لدى المثول أمام أية فجيعة، ولكنّ قدراً كبيراً من تعاسة البشر ماثلة في أنّهم لا يملكون في مواجهة الموت سوى الكلمات, وهي كلمات تعزّي الأحياء، وهي مستهدفة بكل أشكال اللا يقين، حين يعبر في الأذهان خاطر قدرتُها على مساعدة الراحلين وهم في سبيلهم إلى مواجهة أعمق المجاهيل القائمة فيما يلي الحياة التي لا تزال – رغم كل الكشوف العلمية المتعاظمة – تتخبّط في حمم المجاهيل التي تنتابها من حيث البدء والغاية والنهاية، وكذلك من حيث طبيعتها الماثلة في كل نبضة كائن حيّ وفي كلّ التماعة يخضور.
يجري اتّهامنا – بوصفنا عرباً – بأننا لا نتقن سوى كتابة المراثي، وأنّ امتداح الحياة يثقل كواهلنا كثيراً، ويجعلنا نغصّ بكل نأمة تسري في هذا الاتّجاه، وأدّعي أنّ طبيعة الفجائع, وطبيعة تواترها المتسارع في حياتنا العربية منذ فجر التاريخ العربي, هي التي فرضت على الأقدمين، مثلما فرضت على جيلنا وأجيالنا اللاحقة، هذا المناخ المثقل بالحزن العميق والإحباط الموئس. وفي ظلّ ما يجري، ويستعدّ للجريان، يصير البكاء رثاء للذات بقدر ما هو رثاء للذين فجعونا بكلّ أشكال الرحيل.