«همنغواي».. وثائقي بعمق كتاب جديّ

لم يكد ينسى ظلم أمه ومعاملتها القاسية لوالده حتى لاحقته المخابرات الأميركية، في إطار المكارثية التي حولت الشعب إلى مخبرين يشي الواحد منهم بجاره أو قريبه أو زميله بتهمة الميل للشيوعية لينال ثمن وشايته، وهذا ما جعل همنغواي يحس بأنه «ملاحق من المخابرات» وتفاقم اكتئابه، حتى موته منتحراً أو مقتولاً من قبل المخابرات الأميركية.
بدأت بإحساس همنغواي بـ«الملاحقة» لأن صناع السلسلة الوثائقية «همنغواي» التي أنجزت وتذاع بمناسبة الذكرى الستين لوفاته، وتعد هذه السلسلة الوثائقية (مراجعة نقدية) لحياة وإنتاج الحاصل على جائزتي نوبل وبوليتزر، كما أنها تدقيق في أسطورته بمقابل حياته الشخصية، بدءاً من طفولته في شوارع شيكاغو مروراً بتطوعه كمسعف في الصليب الأحمر أثناء الحرب العالمية الأولى وإصابته بشظية أثناء خدمته في إيطاليا ووقوعه في حب ممرضته التي صارت زوجته الأولى مروراً بعمله كمراسل ثم تحوله إلى كاتب كبير، بل أسطورة أدبية ساهم هو نفسه في صنعها وترويجها، كما تقول السلسلة الوثائقية.
أنجز هذه الوثائقية المخرج كين بيرنز، الذي عرف بوثائقياته (جسر بروكلين) و( جورج واشنطن) و( تمثال الحرية)، وجاءت هذه السلسلة في
( 6 ساعات) تؤرخ لحياة الروائي الأميركي وأيقونة همنغواي الأدبية وأسطورته الحياتية، وحسب النقاد شكلت بالفعل قطعة سينمائية تلفزيونية شاملة ودقيقة ونقدية، حيث تصل إلى جوهر الكاتب المشهود من خلال التطرق إلى كل تعقيدات حياته، من أمه القاسية إلى زوجاته الثلاث وأسفاره وأفكاره وما رسم لنفسه من ملامح أسطورية.
استند مخرج «همنغواي» إلى الممثل جيف دانيلز لينطق الكلمات التي كتبها همنغواي في مخطوطاته وخطاباته ليقدم قراءة دقيقة عن نفسه (لطالما كان لدي وهم بأنني شخص مهم بنفس أهمية رجل صالح، وكاتب عظيم، وقد اتضح أنني لست كذلك، ولكنني أود أن أكون كليهما رجلاً صالحاً وكاتباً عظيماً). ويبدو أنه عاش وهو يسعى ليكون كاتباً عظيماً اعتماداً على كونه شخصاً صالحاً، وهذا السعي الدائم جعله أسطورة إبداعية تماماً مثلما دفعته ملاحقة المخابرات إلى الاستغراق في هواجسه إلى حد الانتحار أو الموت قتلاً، ويمكن أن يعاب على السلسلة أنها لم تعتنِ بدور المكارثية وملاحقة المخابرات في التسبب بموته.
كذلك فإن قيام ميريل ستريب بدور الزوجة الثالثة لهمنغواي أضاف جاذبية كبيرة لهذه السلسلة الوثائقية في ذكرى وفاته الستين، ويبدو أن هذه الوثائقية بنهج البحث الذي اعتمدته وبنزوعها للنقد والتدقيق، باتت كتاباً مهماً وجدياً عن همنغواي وحوله.. فهل صرنا أمام أشكال جديدة للكتب على شكل أفلام وثائقية متقنة ودقيقة؟ ترى كم سيكون همنغواي راضياً لو كان حياً واطلع على ما جاء في هذه السلسلة الوثائقية؟ لا بد أنه سيحتج على عدم عنايته بملاحقة المخابرات له والتسبب باكتئابه وقلقه وخوفه و… ربما قتله.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار