نار، وليل، وطريق خاوية، إلّا من بعض النجوم الخجولة التي تحاول إثبات وجودها في السقف الأعلى للمشهد دون جدوى، في المشهد الأعلى، أيضاً، بضع غيوم صيفية المنشأ، و قمم لأشجار من السرو المعتق، تتمايل مع الريح بثقل الكهولة عندما يوائم بها شيخ الطريقة في غياب المريدين، لم تكن الأشجار تدرك المعنى الحرفي لتجليات “الهرب” من الآنيّ، ولا كيف يتحول البشر الحفاة إلى لصوص من رماد، ليسرقوا من الليل الجزء اليسير من النشوة، بعد أن تكاسل الحلم في جيوبهم عن تحقيق مآربه المنتظرة مع سطوع كلّ فجر على دروب السفر، كانت الأشجار هالة تأويلية لناي جف دمعه، وكان صمتها محاولة ساذجة، وأخيرة لإجبار العاشقين على النطق لردم هوة الفراغ الذي عشش في الصدور، بعد أن تخلى الدم عن لونه القاني، ليكون دمعاً أزرق القسمات فوق الوسادات الخائفة من هيبة الدفء!!. في المشهد ،أيضاً، قمر مكتمل الولادة، حتى أنه يبدو للفارين من هيمنة البيوت المتخمة بالفاقة، وكأنه يراود نفسه سراً، ليكون بحجم حلمٍ لمدينةٍ صغيرة حطت رحالها، ذات يأس، على الجانب الآخر من الطريق، من دون جدوى للقاء!!..
– ترى ما هو المعنى الحرفي لكلمة “هروب” ومن أين جاء نصلها بعرجونه الحاد حتى صار ملثماً بكلّ ما نمتلكه من صفات: يسأل العاشق صنوه المغيب على سفح جبل بعيد، فيشير القمر إلى تلك النجمة التي لن تمل من مرافقته، ولن تثنيها عن ملاحقته تشتت مداراته، ولا انكسافاته المتكررة في فصول الغيب!!..
– تقول الأشجار، بصوت “النفري” ذاك المتصوف الذي لم تهبه الحياة سوى المواقف، وسرها المكنون في المفردات الجامحة :/ إذا رأيت النار، فقع فيها، فإنك إن وقعت فيها انطفأت، وإن هربت منها طلبتكَ وأحرقتك./..
– يقول الليل: ثمة احتراق، يجري في الشرايين، والأصابع المأخوذة من خيوط الشمس، لا تهوى الهروب، فإن لمستها تعانقت مع الطريق، سوف يصير السفر، وجداً ثنائياً، حقولاً واسعة من أمل لامسها بشغف الرحيل الذي ينتاب القمر مع بداية كل يوم، وإذا كنت بمكان من الجرأة قبلها دون تردد، قبّلها على كل المفارق، لا تأبه بما سوف يشي به الليل عنكَ للعابرين في تكايا المال، قبّلها كما يليق بها، وانظر في عينها، سوف ترى كيف تنثر الماء المالح بالموت، وكيف تطفئ بشغف رحيلهما معك يافطة الصفعات، لا تأبه بما سوف يُقال، لا تهرب من فاتحة التأويل إن لامست ضلالاً في وقفتك، واذكر ذاك المتصوف، ولا تنسى كيف تصير النار سلاماً، وكيف توأد ماضيها بلمسة حب، في المشهد أيضاً أصابعك تنتظر أن تكون الدروب خالية من وشاتها، كي تكمل المدينة اسطورتها بلمسة من ذاك الشعر التي تستعير منه حلماً جديداً كلما داهمت شوارعها فصول الجفاف!!.