يواجه العرب اليوم أكبر هجمة إمبريالية وشوفينية في تاريخهم المعاصر لضياع الهوية العربية في ظل الخصوبة الأزموية التي يجهلها المجتمع العربي المعاصر، ولاسيما وهو يعاني من الهيمنة والاحتلالات الأمريكية والصهيونية والتركية ، في العراق وسورية وليبيا واليمن، احتلالات تعدّ في أحد أوجه خطورتها أنها واحدة من أكبر أخطار الاستعمار الجديد ضد الفكر العربي والهوية العربية .
الأزمة هي بلا أدنى شك علامة كبرى للمجتمع العربي المعاصر، وقد بلغ من عمق اتصاف المجتمع العربي المعاصر بصفة التأزم أنه بات يصح فيه القول إنه مجتمع يراكم الأزمات، من دون أن يحلّ أي مشكلة من المشكلات المطروحة عليه.
فضلاً عن ذلك هو يعاني من التحديات الخارجية، ويجد نفسه باستمرار في مواجهة مشكلات جديدة تضاف إلى ركام سابقاتها لتزيدها وتزداد بها تعقيداً من أن يسهم حل المشكلات القديمة في صياغة استجابة ملائمة للتحدي (الأمريكي والتركي والصهيوني) ومن دون أن يسهم حل المشكلة الجديدة في تحقيق استرجاع نقدي وتجاوزي للإشكالات المتقادمة.
ولكن إن تكن الأزمة هي العنوان للمجتمع العربي المعاصر، فإن أهم ما يميز أزمته ويعززها عن أزمات غيره هو أنها تطول الواقع والفكر معاً، فكثير من المجتمعات عرفت ما يعرفه المجتمع العربي المعاصر من أزمات طاحنة، ولكنها كانت –على حدّتها- أزمات خصبة استتبعت لا استجابات مطابقة فحسب، بل كذلك قيام ثورات أو وضعيات جديدة نقلت تلك المجتمعات إلى أطوار أكثر تقدماً، وأعطت لتطورها التاريخي شكل قفزات أو نقلات نوعية أتاحت لها– بما يشبه مفعول العتلة- أن تتجاوز ذاتها وتحقق فيضاً في التطور.
لكن في المجتمع العربي المعاصر، نرى تراكم الأزمات وبلوغها حد الاستعصاء ما يعني عدم وضع هذا المجتمع على عتبة الانفراج، أو حتى على عتبة استشراف الانفراج، بل يخضعه لقانون التردي، أي الانتقال من سيئ إلى أسوأ، مع غلبة تامة لهاجس توقع الأسوأ ولفلسفة الذل الواقعية التي ترضى بالأقل سوءاً توجساً واتقاءً من الأكثر سوءاً.
ليس من العسير أن نهتدي إلى سر العقم الأزموي، ففي كل حالات الأزمات الخصبة، أي الأزمات التي يكون لها في نهاية المطاف مفعول العتلة، يقوم بين الواقع والفكر جدل التحدي والاستجابة، فالمفكر، من دون أن يكف عن أن يكون انعكاساً للواقع، يحوز قدرة مفارقته والسمو عليه واستشراف بديل له بالاعتماد على قوى أو بذور التغيير الكامنة فيه، والتاريخ الحديث حافل بالأمثلة على أمم عرف فيها الفكر انطلاقة جبارة بحكم تردي واقعها تحديداً، وبهذا المعنى، كانت عظمة الفكر هي الوجه الآخر لبؤس الواقع، وكانت هي القاطرة التي شدته على سكة التغيير الثوري أو الإصلاحي.
ولكن الأزمة التي يواجهها المجتمع العربي المعاصر اليوم في ظل الاحتلالات (الأمريكية والصهيونية والتركية) هي أزمة من النوع المتشابك ، أزمة يترجم فيها بؤس الواقع نتيجة للمعاناة، ومن ثم فهي أزمة خانقة بكل ما في الكلمة من معنى، أي أزمة لا تنفتح على أي تغيير، ولا تنذر في المدى القريب على الأقل إلا بآت أسوأ وليست الأزمة في حدّ ذاتها هي الجديد في تاريخ المجتمع العربي المعاصر، بل الجديد في هذا التاريخ هو تحولها، بل انحطاطها، أي في التحليل الأخير من أزمة الواقع إلى أزمة الفكر والواقع معاً.
على امتداد القرن الذي تصرّم تكشفت صدمة اللقاء مع الغرب ، وكان الفكر العربي– ولاسيما السياسي منه- يلوح للواقع العربي بإمكانية التغيير، بيد أنه في العقود الأخيرة ، راحت الأزمة تتكشف عن أنها من طبيعة خطرة بالأحرى، فعدوى البؤس قد امتدت من الواقع إلى الفكر، والداء لم يعد محصوراً بالظواهر المطلوب تغييرها، بل طال أداة هذا التغيير وعتلته بالذات .
أصابع الاتهام ما لبثت في طورٍ ثانٍ، أن وجهت إلى الواقع العربي ككل، وإذ كانت الساحة الفكرية العربية تنضح اليوم بالنواح والعويل، وإذا كان عدد البكائين من المثقفين العرب قد تزايد اليوم أضعافاً عما كان عليه ما بعد احتلال العراق والحرب المفروضة على سورية واليمن وليبيا وغيرها، فهذا لأن الأنتلجنسيا العربية تشعر من طرف خفي، وسافر بأن التردي العربي قد بات يتطلب طرقاً للتفكير ونقد أساليب التفكير السائدة في المجتمع، وأن الحدث الأكثر تميزاً على صعيد الفكر السياسي العربي هو اكتشاف النخبة المثقفة العربية –بعد طول تأخير- لفضيلة الديمقراطية، ولكن هذا الاكتشاف لم يثمر فكراً سياسياً بالمعنى الوصفي للكلمة، فهو لم يتعد طور المطالبة إلى طور التأسيس النظري لمفهوم الديمقراطية، هذا فضلاً أن المطلب الديمقراطي بقي بالإجمال مطلباً طوباوياً، أي غير معني بتحديد الشروط العلمية لتحقيقه. إن الأزمة التي يتخبط فيها الواقع السياسي العربي اليوم ليست أزمة تعزى إلى تراكم متنامٍ في التجارب السياسية بقدر ما تعزى إلى تجريب عشوائي ينم عن المصالح القطرية الضيقة، كما يحدث الآن من عدوان مبيّت على سورية والعراق واليمن وليبيا وفلسطين، وأن الفكر السياسي الذي يفترض أن يلاحق هذه الأزمة ويحللها في جذورها وأبعادها الحقيقية ظل مشدوداً إلى قشرتها السطحية يتعامل معها كما لو كانت ظواهر مفصولة، ويمكن أن نشير إلى بعض المعالم التي تميز الواقع السياسي العربي وأزمته الفكرية على صعيد الممارسة، منها:
1- غياب ممارسة الجماهير في السلطة وتهميش دورها.
2- تقليص الحريات الفردية والسياسية.
3- غياب الحقوق الأساسية والاجتماعية والاقتصادية للمواطن العربي، وعلى رأسها حق المواطنة.
4- رفض صيغ الاختلاف مما يسد الطريق أمام كل حوار ديمقراطي.
5- سيادة الممارسات القطرية واستفحال النزعات الإقليمية.
أما على صعيد الفكر فإننا نلاحظ أن الفكر السياسي المشدود للأنظمة الرسمية ذرائعي في جوهره، تبريري يستهدف إضفاء المشروعية على الاختيارات والقرارات السياسية.
ولما كان من المفروض أن يطرح الفكر السياسي العربي غير الرسمي نفسه كبيدل يستهدف الكشف عن الآليات السلطوية وممارستها في المجتمع العربي، فإننا مازلنا نلاحظ أن هذا الفكر، في الكثير من معالمه، فكر منفصل عن الواقع، غارق في أشكال من المثالية الطوباوية.
أكاديمي وكاتب عراقي