لعبة اليمين واليسار في “إسرائيل” باتت مكشوفة فكلاهما متطابق في الإيديولوجيا، وخاصة فيما يتعلق بالاحتلال ، رغم اختلافهما في بعض المفاهيم الاقتصادية.
اليمين الإسرائيلي يميل عادة إلى تحرير الاقتصاد وإطلاق قوى السوق وخفض الضرائب، بينما يتجه اليسار في الأغلب إلى دور أكبر وتوسيع الرعاية الاجتماعية، ورغم أن هذا المعيار الاقتصادي الاجتماعي للكيان لم يعد يعمل في “إسرائيل” منذ تسعينيات القرن الماضي فقد بقي تصنيف الأحزاب إلى يمين ويسار مستمراً ومستنداً على الموقف تجاه القضية الفلسطينية.
كما بقي هذا التصنيف إلى يمين ويسار على حاله بعد أن ضاق الخلاف بينهما بشأن هذه القضية وفقدت الأحزاب المصنفة يسارية حضورها السابق وصارت أقرب ما تكون إلى هامش صغير في الخريطة السياسية بالكيان .
فقد استمر التصنيف القديم مهيمناً في نظرة العرب إلى التفاعلات السياسية داخل “إسرائيل” بل انتشر في وسائل الإعلام من دون مراجعة جدواه كما يتضح في التعامل مع نتيجة انتخابات الكنيست الأخيرة.
إذا ما نظرنا إلى نتيجة الانتخابات الأخيرة ، التي جرت داخل الكيان ووضعناها في سياقها التاريخي نجد أن ثمة خصوصية لمفهومي اليمين واليسار وأن استخدامهما ينبغي أن يراعي خصوصية ما يسمى “التجربة الإسرائيلية” التي يتعذر أن نجد ما يماثلها في عالمنا فقد تطلّب قيام “إسرائيل” منهجاً معيناً اعتمد على استقدام تنظيم اليهود المهاجرين في كيانات تشبه في شكلها “مؤسسات” ارتبطت باليسار العالمي ، مثل اتحاد العمال (الهستدروت) والمزارع الجماعية وقيماً يسارية مثل الجماعية والتقشف لتوظيفها في عملية التأسيس، وكانت الأحزاب المصنفة يسارية من حزب (ماباي) أي “عمال أرض إسرائيل” تحت زعامة دافيد بن غوريون، الذي كان في ذلك الوقت سكرتيراً عاماً للهستدروت. الأقدر على أداء تلك الوظيفة وتصدرت هذه الأحزاب التي اندمجت في «حزب العمل عام 1968 النظام السياسي الإسرائيلي لما يقرب من ثلاثين عاماً حتى بدأت أحزاب أخرى تصعد بدءاً من عام 1977 لأداء وظيفة ثانية تكمل تلك التي قام بها اليسار، حيث استطاع اليسار أن يمكّن “إسرائيل” من السيطرة على أكثر من 70% من الأرض الفلسطينية ثم احتلال الجزء الباقي في عدوان 1967 وكان على تيار آخر أن يكمل ذلك الإنجاز عبر توسيع الاستيطان .
وقد ساهمت الظروف التي مرت على المنطقة بعودة اليسار لاستكمال “مهمته” في تمكين “إسرائيل” من أكبر قدر ممكن من الأراضي الفلسطينية عبر اتفاق أوسلو عام 1993، ثم أخذ دوره بالتلاشي تدريجياً بعد ذلك.
كل ما حدث لا يعني أن هناك توزيعاً لدور الأحزاب في “إسرائيل” بل يعد تطوراً طبيعياً تكاملت فيه المهام وفق متطلبات هذا التطور وفي إطار خصوصية مفهومي اليمين واليسار في “إسرائيل”.
الأكثر أهمية وفقاً لنتائج الانتخابات الأخيرة هي انتهاء دور اليسار بعد انتهاء مرحلته التاريخية وتحوله إلى هامش يقل تمثيله عن 10% من مقاعد الكنيست وهذا وضع يتجاوز كثيراً معنى الأزمة ولا يمكن فهمه دون إدراك خصوصية كل من اليمين واليسار في “إسرائيل” ولم يعد دقيقاً القول إن اليسار في أزمة لأنه فقد مبرر وجوده بعد أن أدى دوره كاملاً.
يتحول اليسار الإسرائيلي الذي هيمن في الماضي على الساحة السياسية الإسرائيلية إلى قوة مهددة بالزوال مع التراجع الكبير لحزب العمل والجهود الكبرى التي يبذلها حزب ميريتس للحفاظ على تمثيله في الكنيست.
إن مفهوم اليسار هو مصطلح في السياسة الحزبية الإسرائيلية يعرف بـ”معسكر اليسار” يتزعمه حزب العمل ويضم بين جنباته ميرتس ليصبحا حزبين مركزيين، بالإضافة للأحزاب العمالية الصغيرة التي تنشأ وتختفي خلال فترات الكنيست المتعاقبة والأحزاب العربية – اليهودية المشتركة والأحزاب العربية الصرفة.
إن تاريخ انحدار اليسار الإسرائيلي يتكون من عدة فصول بدءاً من الصعود الأولي لحزب الليكود إلى السلطة عام 1977 في ظل زعامة مناحيم بيغن، وفصل آخر جاء بعد اغتيال اسحق رابين عام 1995 على يد متطرف يهودي يميني معارض لعقد “اتفاق سلام “مع الفلسطينيين واتفاقيات أوسلو التي كانت تعدّ خطوة اقتصادية لقيام دولة فلسطينية لم تطبق وأصبحت موضع رفض ، مما طال حزب العمل نفسه.
وأدى فشل اتفاقيات أوسلو والانتفاضة الثانية في مطلع سنوات الألفين إلى تغيير رأي عدد من الإسرائيليين بالرسالة المزعومة حول “السلام” التي حملها اليسار، ومما ساهم أيضاً في سقوط هذا اليسار هجرة نحو مليون يهودي متشدد من الاتحاد السوفييتي إلى “إسرائيل” خلال التسعينيات، ما أعاد رسم الخريطة السياسية وعزز اليمين المتشدد. بعد انعقاد مؤتمر مدريد في تشرين الأول 1991 أضحى من الصعوبة بمكان تحديد الألوان السياسية الحزبية في “إسرائيل” فإذا كان المعيار الرئيسي لهذا التحديد هو البرامج السياسية للأحزاب وبنودها الخاصة بالسلام مع الفلسطينيين، فإن تغيرات كثيرة قد طرأت على هذه البرامج، ما أضاف صعوبة أخرى على هذا التحديد، حيث رأينا في الانتخابات التي جرت خلال السنوات الماضية وحتى اليوم نزوحاً كبيراً لهذه البرامج نحو وسط الساحة الحزبية السياسية سواء من قبل أحزاب اليمين بزعامة الليكود الرافعة لواء عدم التنازل عن أجزاء ما يسمى ” أرض إسرائيل الكبرى” أو من أحزاب اليسار بزعامة العمل التي تتبنى بدرجات متفاوتة خيار الدولتين .
لقد عاشت الساحة السياسية في “إسرائيل” ما نسميه لعبة الكراسي، ففي عام 1992 عاد حزب العمل ومعسكر اليسار ليحكم “إسرائيل” فيما يشبه الانقلاب السياسي بعد 15 عاماً من حكم اليمين فيما بدا حينها أنها عودة ستطول، وما لبث اليمين أن انتزع منه الحكم في انتخابات 1996 ثم عاد اليسار إليه ثانية في انتخابات 1999 بزعامة ايهود باراك، فيما عدّته الأوساط الإسرائيلية في ذلك الوقت فرصة للوصل إلى حل مع الفلسطينيين في ظل تأييد كبير لمثل هذا الحل داخل الشارع الإسرائيلي.
ومنذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في نهاية أيلول 2000 سجل غياب شبه تام لمعسكر اليسار الإسرائيلي الأمر الذي دفع الكثير من المحللين السياسيين إلى التساؤل عن ماهية الأسباب الكامنة وراء هذا الغياب والمدة المرشحة لاستمراره، فيما ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، وتنبأ بنهاية اليسار الإسرائيلي أو ما يعرف بـ”معسكر السلام”.
يعادل هذا المعسكر في الساحة الإسرائيلية القطب الآخر المسمى بمعسكر اليمين الذي يتزعمه الليكود ويضم الأحزاب اليمينية الصغيرة والدينية.
وجذور معسكر اليسار التي انبعثت منذ قيام الكيان تتشابه إلى حد كبير سواء في البنى التنظيمية أو المبادئ الاجتماعية والاقتصادية التي بنت عليها برامجها بدءاً من فترة الاستيطان وحتى الآن، إلا أنها ليست كذلك في القضايا السياسية وخاصة السلام مع الفلسطينيين، حيث لا ينظر إلى معسكر اليسار ككتلة واحدة في هذا الجانب، فهناك اليسار التقليدي وتمثله حركة ميرتس وهناك يسار الوسط وتمثله قوى السلام والأحزاب العربية، وفي هذا السياق لا بدّ من التمييز بين نوعين من اليسار الإسرائيلي اللذين ساهما في نشأة “إسرائيل”:
النوع الأول هو اليسار الصهيوني الذي مثّله حزب (المبام) وذلك قبل اتحاده مع العمل في السبعينيات، ويمثله الآن العمل وميرتس والأحزاب اليسارية الأخرى.
والنوع الثاني اليسار اللاصهيوني ويتزعمه الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وقد نادى هذا الحزب منذ البداية بتطبيق قرارات الأمم المتحدة وخاصة قرار التقسيم الذي نص على إقامة دولتين في فلسطين دولة عربية وأخرى يهودية.
بالعموم اليسار الإسرائيلي يتطابق إيديولوجياً مع اليمين الإسرائيلي رغم أنهما يظهران بأن لكل مفهومه، والمعروف أن زعماء “إسرائيل” منذ تأسيس الكيان واحتلاله أراضي عربية أخرى يزعمون أنهم راغبون في تحقيق السلام مع العرب في الوقت الذي يمارسون فيه أعمالاً عدوانية ضد الفلسطينيين والعرب وبذلك يستوي العمل مع الليكود في مفهوم ما يسمى “بناء إسرائيل” وضم الأراضي العربية المحتلة إليها.
عن: مجلة “الإيكونومست” البريطانية