أثار رحيل الشاعر العراقي سعدي يوسف مواجع وشجوناً ترثي زمناً منقضياً اسمه (زمن الشعر) الذي يشعل في جوارحنا ما هو أقوى من الحنين، وأشدّ من الأسف, على زمن خضع قسم عظيم منه إلى عيار الشعر، واصطبغ بجماليّاته العالية، نصوصاً، وحراكاً أدبياً امتدّ على مستوى المنطقة ، غير أنّ ذلك الرحيل أشعل على (وسائل التواصل الاجتماعي) نسيساً فاح بروائح كريهة أنتجها التعصّب إلى كلّ شيء باستثناء شعرية الشعر.. المشكلة أنّ الذين تناوشوا الشاعر، بمعظمهم، تعاوروه بالقدح والمدح من خارج نصوصه الشعرية التي بدا أنّهم لم يقرؤوها, وإذا كان بعضهم قد قرأ فالمقروء استلقى خارج نطاق الفهم والتذوّق، وانصبّ أساساً في خانة التعصّب الأعمى، وما فاقم المسألة هو ضياع المعايير التي ميّعت مفهوم الشعر والشعرية، بحيث صار كلّ مراهق يفثأ نزواته المكبوتة على الفضاء الإلكتروني شاعراً، يفتي بكل ما يعنّ له، ويطلق أحكام القيمة على عواهنها، ولا أحد يستطيع التدخّل في شيء، فعلامات الثناء والتأييد والإعجاب (اللايكات) تنهمر عليه من كلّ حدب وصوب.
من حق الشاعر – وربما من واجبه – أن يكون له موقفه السياسي، الذي يمكن أن يصل إلى حدّ الالتزام الحزبي الصارم تحت مظلّة هذا الحزب أو ذاك، لكن الشخص السياسي أمر ونصّه الشعري أمر آخر، والقيمة الفنّية للنصّ أمر وقيمته السياسية أمر آخر، ومن التلقائي أن يتنحّى الحكم على الشاعر من الناحية السياسية إلى خارج هذه الدائرة المستهدفة بالتقييم والنقاش تنحيّاً كلّياً، إذ بدا في المناوشات المشار إليها أنّ أهمّ ما فعله الراحل كان ماثلاً في معاركه الكلامية ومهاتراته التي يمكن أن تصل حدود السباب.
بعض المثير للسخط في أشكال التعاور المشار إليها آنفاً أنّ المتعاورين لم يعجبهم من كلّ سعدي يوسف سوى شتمه للشاعر فلان، وإشهار موقفه المستهجن للشاعر فلان، وما شابه ذلك، والأكثر إزعاجاً ماثل عموماً في ممارسة التطرّف السياسي الذي يمكن أن يلتزمه هذا الشاعر أو ذاك، والمسألة ترجع أصلاً إلى أنّ النص الشعري لا يكون نصاً شعرياً ما لم يكتب بدلالة تطرّفين: تطرف شعوري يقع عموماً في ما يسمى بالخارج النصّي، وتطرّف جمالي ماثل في النص المنجز، وربما يتعاطى كثير من الشعراء والأدباء مع خصومهم السياسيين بدلالة هذين التطرّفين، ليستقرّ على سطح المشهد المعني بالمعاينة – مع الأسف الشديد – أنّ السياسيين على وجه العموم أكثر قبولاً للآخر- بإطلاق دلالة الآخر – ممّا يفعل الأدباء.