صناعة «ثقيلة»

فردَتْ اللوحة القماشية المنسوخة من لوحة عالميّة بألوانها الباهتة، وأزاحت بيمناها، جانباً، لفائف الخيطان الملونة، لتأخذ غِمْدَ الإبر تتفحصها، وتقيس بعينيها ما يناسبها من حبّات الخرز الملون المسكوب في أوانٍ زجاجية صغيرة، لأنها تستعدّ لشكّ القماش بما يجعله يبرق ويسطع إذا ما لامسه الضوء! وما لبثَت أن رثَتْ أيام خرز الكريستال التشيكي الذي دخل هو الآخر في الحصار الاقتصادي وحرم لوحاتها من الجمال الذي اشتُهرت به بين زبائنها! وإذ داعبتُها قائلةً: ماذا عن الصّناعات المهمة التي أوقفها الحصار مثل الطائرات وإطارات السيارات ومصافي النفط ومصانع النسيج والأدوية، كيف تفكرين بأن لوحاتك البسيطة غير المهمة نال منها الحصار؟ بادرتني بإجابة ربما نسجتها على مهل، كما اعتادت «شكّ» ما لا يُحصى من عديد الخرز لتتخلّق لوحة كبيرة تزيّن جدران المنازل: لا أعرف قيمة تصنيف الصناعات: ثقيلة، خفيفة، استهلاكية، ضرورية، مرفّهة، إلا من ناحية التكلفة. وهي جميعاً بنفس الأهمية للإنسان! نحتاج فرديّاً للملابس والدواء والوقود ووسائل المواصلات، لكننا في لحظة ما، نريد وسادة بلونٍ مفارِق ولوحةً على جدار وشمعةً على الرف، فهل صُناع كل هذا، خارجَ التصنيف؟ كان الأديب «يوسف إدريس» جميلاً حين كتب عن نهوض اليابان العظيم من دمار الحرب العالمية الثانية بصناعة «الترانزيستور»، وفي حين كانت الدول الكبرى تتسابق في الصناعات الثقيلة من سكك حديدية وسفن وناقلات ومحطات فضاء، كان عمالُها يجمّعون أسلاكاً دقيقة وقطع بلاستيك وقطرات لِحام، لصناعة جهاز سحريّ تخاطفتْه كلُّ شعوب العالم، واقتناه الغنيّ والفقير، ورفع مستوى الدّخْل القومي لبلد ليس فيه آبار نفط ولا مناجم فحم حجري حديد ونحاس وأحواض غاز! هكذا رأيت أنني أشارك في صناعة لا تبور، مثلي مثل عاملات «الأغباني» و«الصّرما» و«الصّدَف» واللوحات البحرية من المحار والأصداف والبُسط التي تُنسج من بقايا الأقمشة التي لا تفيد في خياطة أو تفصيل!
كنتُ، بالتّداعيات، بعد جملة «صناعة لا تبور» أتذكّر أن الصناعات غير المرئية هي فعلاً الجانب المرهَفُ من حياتنا: اللوحة والوسادة المطرّزة والبساط وغطاء الطاولة والشموع والناي القصبيّ ومبسم السيجارة ودانتيل صواني الضّيافة، وعلى طريقة «الترانزيستور» الياباني تصبح رفيقةً حميمة لتفاصيل حياتنا! وإنني رأيت جموعاً من الصانعات الصنائعيات على امتداد مدننا وأريافنا يواصلن العمل خارج مشاكل البيئة والإدارة وتعقيدات التراتب الوظيفي وحسابات الصادر والوارد والجرد السنوي، ولا تني صناعتهن أن تجعل حياتنا أجمل وأمتع!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار