لأن الأدب هو ابن الحياة، فقد ارتبطت الأعمال الأدبية – الفنية، في بنيتها الفنية والفكرية، بالتحولات الاجتماعية، والتي هي بدورها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتبدلات الاقتصادية التي يخضع لها المجتمع المشار إليه، ومن خلال هذا الربط بين الأدب، وحركة المجتمع ضمن دائرة مركزها الأساس هو نمط الاقتصاد السائد، نستطيع دراسة تاريخ المجتمعات، غير الرسمي، بمرجعيات عمل أدبي – فني معين، أو مجموعة أعمال، قد تبدو ظاهرياً في حالة من التناقض أو الصراع، بينما جمعها في الوقت ذاته، يكون المعبر الأقوى لحركة المجتمع في المرحلة التي عاصرت إنجاز تلك الأعمال ..
– رواية (الدّيكاميرون) لجوفاني بوكاشيو من القرن الرابع عشر، أخبرتنا عن التبدلات الكبرى التي رافقت ذاك الانهيار الذي حلّ على نمط الانتاج الإقطاعي، وأنهى، بالتعاون مع مرض الطاعون، تلك المرحلة الاستبدادية من تاريخ أوروبا، كما أننا نستطيع من خلال الرواية، ملامسة الطموحات التي سوف ترافق المجتمع الصناعي، في بداياته الأولى، وسوف تؤسس – شخوص الرواية – لظهور الطبقة الوسطى في أوروبا، والتي يعود لها الفضل إلى كلّ ما وصل إليه سكان القارات مجتمعة من تطور في العلوم الإنسانية والقانونية فيما بعد.. وأيضاً نستطيع الإشارة إلى أن المدارس الأدبية والفنية التي رافقت عصر النهضة، بنمط إنتاجه البرجوازي، لم تكن سوى المشهد الحقيقي، المعبر عن إرهاصات ذاك الزمن، فالمدرسة (الدادائية) على سبيل المثال، التي رافق الإعلان عنها الحرب العالمية الأولى، لم تكن سوى احتجاج يائس وعدمي ليس على الحرب، وما جاءت به من ويلات، وإخلاله في البنى الاجتماعية وحسب، وإنما على نمط الإنتاج الذي جاء بالحرب للإعلاء من شأنه، والذي سوف يؤسس مع نقيضه الفني لاحقاً مجتمعات بعلاقات إنتاجية جديدة، ورؤية فلسفية متجاوزة كل ما أتى به السابق، وسيكون الأدب بشكل خاص، والفن بالعام، هما الخزان الرسمي للمستقبل، والأرشيف – غير الرسمي – الذي سوف يقوم بترجمة تلك التغيرات بكل مصداقية وأمانة..
– فما هو الأدب الذي سوف يُنتج في زمن (كورونا)، زمن وصول الرأسمالية إلى أعلى مراحلها وما بعدها، وماهي مهامه؟..
– سبق (كورونا) بقليل مجموعة من التبدلات المريبة في البنية الاقتصادية العالمية، استطاعت إغراق الإنسان بالتشييء، والقلق، والأنانية، والفاقة، والحروب على الدول، والشك بهويته القومية، وخاصة فيما يخص المجتمعات الأكثر فقراً، حتى إن تلك التبدلات الاقتصادية السريعة، وما رافقها من أمراض عضوية مستعصية، استطاعت حرمان البشرية من أدنى منجزات الليبرالية، والقيم التي أتت بها في السابق، مع بعض التحفظ، على البديل الموضوع للمنجزات الأدبية التي تم الترويج لها في عالمنا الثالث على أنها الترياق للخلاص من التبعية والفقر!.
– قد لا نستطيع بالسرعة الكلية الإجابة عن سؤال الأدب الذي سوف ينتج في زمن (كورونا النيوليبرالي) وما بعده، لكننا نستطيع مطالبة الأقلام بأن تكون أكثر من شاهدة غير مالكة، في هذا العصر المريب .. تلك الأقلام مطالبة – الآن – بأن تبدل الصفات التقليدية للأدب المقاوم، بمشاريع فنية – أدبية، أكثر مقاومة، أكثر معاصرة، أكثر مسؤولية، وأكثر شراسة في جرأتها، للوقوف بوجه اقطاب (النيوليبرالية) الذين أخذوا على عاتقهم في العلن، سحق ما تبقى لنا من (الإنسان) الذي ميزنا عن بقية الكائنات الفطرية.. الإنسان الذي ارتقى بغرائزه لتكون قطعة موسيقية، أو أغنية، أو لوحة فنية، أو قصيدة شعرية، قادرة على إبعاده عن قانون الغاب، غير المستحب، إلّا لمن خوت صدورهم من الإنسان!.