حكى، يحكي، حكايةً، وحاكى، يُحاكي، محاكاةً… وكلاهما تنفعان، لأنني تعلّمت من والدي بالمحاكاة والتقليد كيف أحكي حكايةً، بل تعلّمنا، أنا وإخوتي، كيف نلتقط بالمحاكاة أيضاً تفاصيلَ ناعمة كانت تبدو لنا كأطفال غير ذات قيمة إلا بكونها تصدرُ عن الأب، بما يرمز إليه من رهبة ومثالٍ حيٍّ للتصرفات والأقوال.
كان والدي يُستَفزُّ جداً حين يرى عشرات التفاصيل اليومية التي تضربُ مثل «المقارع »على وتر صبره وأفكاره «المثالية» عمّا يجبُ أن تكونَ عليه الأشياء في سيرورتها اليومية، فمثلاً: كان يزمجر غضباً من الأغبياء الذين يرمون «العِلكة» كيفما كان, وأينما كان بحيث إنها «تلزق» بالثياب مثل الصمغ وتتركُ «بناطيلنا» موشومة بالدّبق والأصبغة فنصبحُ مثل فأرةٍ وقعت في مصيدة لزجة!.. لذلك كان يُرينا كيفَ علينا أن نغلّفها إمّا بمحرمة قبل أن نرميها في السلة أو على الأقل أن نتركها في مكان فيه تراب لكيلا تنزعَ نهارَ أحدهم بالشطّ والمطّ والقهر والغضب!.
فيما كان طوال مشاوير المشي الذي درَّبَنا عليها وتعلّمناها بالمحاكاة أيضاً – مرّةً بحجة الرياضة, ومراتٍ لعدم توفر أجرة الركوب وعشراتٍ بسبب ازدحام الباصات/الديناصورات – ينقفُ بطرف حذائه أيَّ حجرٍ متروكٍ وسط الطريق، أو زجاجةَ عصير رماها أحمقٌ ما، أو كِسرات زجاجٍ حطّمتها السيارات، أو مسمار تركه أولادٌ عفاريت… حرصاً منه ألّا يتأذّى أحدٌ من الناس، وهو يردّدُ لازمةً تشبهُ جملة تتصادى في عرضٍ مسرحيّ هزليّ: يا إلهي…عجيب… أين تذهب عقولُ البشر؟!.
وبالمحاكاة حكيتُ لكم، وسأحكي كيفَ أنّ امرأةً أتتْ إلى حكيمٍ «ربما هو غاندي؟!», واشتكتْ إليه شَرَهَ ابنها لأكل السكّر والحلويات وعجزها عن جعله يتوقف برغم آلاف التنبيهات والتحذيرات والنصائح منها، طالبةً من الحكيم أن يقول لابنها أنْ يكفَّ عن تناول السكّر, فطلبَ منها الحكيمُ أنْ تأتيه بعد أسبوعين، ثم حين عادت هي وولدها، حملقَ في عينيّ الولد، ووجّه له سبّابةً محذّرة، وقال له: إيّاكَ أنْ تأكلَ السكّر مرة ثانية لأنه مضرٌّ بصحتك, رمقتْه الأمُّ متعجبة: أطلَبتَ منّي أنْ آتيكَ بعد هذه المدة لتقول له هذه الجملة فقط؟!… أجابها: كانَ عليّ يا سيدتي أن أمتنعَ أنا أولاً عن أكْل السكّر!.