انتصار.. أم وهم؟

يحلو للكثير من المثقفين الظهور بمظهر المفكر العميق الذي يحاكم الأحداث بعمق وروية.. والحديث هنا ليس عن المثقفين والإعلاميين المأجورين، بل عن مثقفين احترفوا اليأس والإحباط، وأصبحت تحليلاتهم وسيلة لنشر التشاؤم وتقزيم الإنجازات.

حجتهم أنهم يحللون الأمور بواقعية منعاً لانجراف المجتمعات خلف إنجازات وهمية ومن ثم الركون إليها.

سمعنا تحليلاتهم بعد تحرير الجنوب اللبناني عام 2000، وبعد حرب تموز 2006، ونسمعهم كلما حقق الجيش العربي السوري نصراً جديداً على المشروع الاستعماري الغربي وأدواته الإرهابية. اليوم يعود هؤلاء لتقديم تحليلاتهم حول معركة “سيف القدس” فيرونها نصراً وهمياً، بل إن بعضهم يشتط ليصفها بخطوة أولى في مشروع استعماري جديد.

ما يغيب عن هؤلاء أن حسابات النصر والهزيمة لم تعد تخضع لنفس المعايير التقليدية. لعل البداية كانت في حرب القرم (1853– 1856) التي انتصر فيها العثمانيون على الروس، لكنها كانت بداية النهاية للإمبراطورية العثمانية، التي اضطرت لتقديم الكثير من التنازلات لحلفائها (فرنسا وبريطانيا) ما سرّع عملية انهيارها. لقد تعلم العسكريون من تلك الحرب أن المنتصر هو من يحقق أهدافه الإستراتيجية من الحرب بغض النظر عن النتائج العسكرية المباشرة.

نعود إلى معركة “سيف القدس” لنحكم على نتائجها في سياق أهداف كل طرف من أطراف المعركة. بالنسبة للعدو الصهيوني، الذي أطلق شرارة العدوان ، كان الهدف الأساسي لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تصدير الأزمة السياسية التي تعيشها حكومته لفشلها المتكرر في تحقيق أغلبية في الانتخابات، وبالتالي الفشل في تشكيل حكومة، إضافة إلى الهدف الشخصي بتجنب المحاكمة التي يمكن أن تؤدي إلى سجنه. كان إطلاق حملة ضد الأحياء العربية في القدس الطريق الأسهل (بنظره) لكسب المزيد من أصوات اليمين في الانتخابات القادمة، ولينهي الوجود العربي في القدس خارج إطار البلدة القديمة، وبالتالي ضربة أخرى لمشروع حل الدولتين الذي تتبناه الإدارة الأميركية.

بالنسبة للمقاومة، كان الهدف ردع المشروع الصهيوني في القدس، وإفشال مخططات نتنياهو واستعادة الدور الفلسطيني في العملية السياسية، والتي استُثني منها الفلسطينيون لصالح دول الموجة الثانية من التطبيع.

في النتائج لم يحقق نتنياهو أياً من أهدافه، فالمشروع الاستيطاني الذي كان يستهدف الشيخ جراح، وغيره من أحياء القدس، تأجل، وأودِع ردهات المحاكم، وأدى فشل العدوان العسكري والخسائر الفادحة التي لحقت بالكيان الصهيوني إلى منح خصومه فرصة تشكيل حكومة (اجتمع الخصوم على شعار إسقاط نتنياهو)، وقد ينتهي به الأمر سجيناً بسبب قضايا الفساد التي تطوله.. رغم أن إسقاط نتنياهو لم يكن من أهداف المقاومة، لأن حكومة اليمين الجديدة قد تكون أكثر شراسة وهمجية في التعامل مع الفلسطينيين، إلا أن سقوط زعيم في الكيان بتأثير الفعل المقاوم يبقى إنجازاً مهماً ستأخذه أي حكومة قادمة بعين الاعتبار.

على الصعيد الفلسطيني؛ لم تعلن المقاومة في أي مرحلة من مراحل المعركة أن هدفها هو دحر الاحتلال أو تحرير أي جزء من فلسطين، كونها تدرك أن طرح مثل هذا الشعار غير قابل للتحقيق في ظل ميزان القوى السائد في فلسطين والمنطقة.

الأهداف المباشرة للمقاومة كانت: إحباط المخطط الصهيوني؛ لأن نجاحه يعني إنهاء الوجود العربي داخل البلدة القديمة، وتكريس ضم القدس والاعتراف بها عاصمة لـ”إسرائيل”، وهو ما تحقق جزئياً بتأجيل قرارات الإخلاء.

أما الهدف الثاني فكان إعادة الاعتبار للدور الفلسطيني في العملية السياسية المتعلقة بقضيته، وهذا الهدف تحقق بشكل يتجاوز توقعات المقاومة نفسها.

منذ مبادرة روجرز 1970، أصبح الأمر الواقع المقبول فلسطينياً وعربياً ودولياً يقسم فلسطين والفلسطينيين إلى أربعة أقسام؛ “عرب إسرائيل” أي الفلسطينيون الذين يعيشون داخل “إسرائيل” ويناضلون من أجل حقوق مدنية ومساواة داخل الكيان، الضفة الغربية أراضٍ محتلة يطالب العرب بالانسحاب الشامل منها، فيما تعارض “إسرائيل” ذلك وتقترح شكلاً من الحكم الذاتي يطول السكان دون الأرض، قطاع غزة الذي انسحبت منه “إسرائيل” لكنها ما زالت تخنقه بالسيطرة على المعابر. وأخيراً فلسطينيو الشتات ممن يطالبون بالعودة رغم شبه الإجماع على رفض العودة والتوجه لتوطينهم في بلدان اللجوء وعودة عدد محدود إلى الأراضي التي تقع تحت السلطة الفلسطينية.

تحول هذا الأمر الواقع إلى حقيقة مقبولة لدى الجميع، وأصبحت منطلقاً لمخططات ومبادرات ابتداء من البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية 1974، إلى مبادرة الأمير فهد 1982، ومبادرة السلام العربية 1993. لكن هذا المشروع أوشك على الانهيار بفعل متغيرات معركة “سيف القدس” التي أعادت الفلسطينيين ليكونوا كلاً موحداً ومتكاملاً، ودفع غلاة اليمين الصهيوني إلى كسر القاعدة الإسرائيلية التي ترفض تشكيل حكومة بدعم من الأصوات العربية، والقبول بالتحالف مع القائمة العربية الموحدة بقيادة منصور عباس لتشكيل الحكومة، ومحاولة شق الصف الفلسطيني الذي بدا موحداً أثناء المعركة.

في الحرب الحديثة يُعتبر الإعلام جزءا حاسما من المعركة، وقد استطاعت المقاومة الفلسطينية بامتياز كسب معركة الإعلام الذي انحاز لوجهة النظر الفلسطينية بشكل كامل، وتخلى عن تردده المعهود الذي يساوي بين الضحية والقاتل، ورأينا صور أطفال غزة الشهداء على صفحات كبريات الصحف الأجنبية تحت عنوان “ببساطة كانوا أطفالاً”، وشهدنا نقداً لاذعاً على شاشة قناة CNN لتغطية محطة BBC المنحازة إلى “إسرائيل”.

حتى الأصوات العربية الناشز التي انطلقت من بعض المحطات مثل قناة “العربية” واجهت مقاطعة رسمية في قطاع غزة وشعبية في معظم العواصم العربية.

أخيراً؛ مثلت المعركة محاولة لإعادة الاعتبار لفكرة المقاومة بصفتها الطريق الوحيد نحو النصر. إن نظرة سريعة على ما حققه محور المقاومة من هزيمة للمشروع الاستعماري، بداية من سورية والعراق واليمن، وصولاً إلى عودة أميركا صاغرة إلى مباحثات الاتفاق النووي مع إيران، ونجاح الانتخابات الرئاسية السورية، وتتويج كل هذا بنتائج معركة سيف القدس، يخبرنا هذا كله بأننا أمام محور صاعد قادر على تحقيق انتصارات مهمة.

إن المسؤولية التي تقع على عاتق المثقفين اليوم تكمن في تعزيز الإنجازات ودعم حالة التفاؤل الشعبي وترسيخها، وكشف محاولات الالتفاف على إنجازات المقاومة وتجييرها لصالح العدو، وتأكيد ما تعلمناه في هذه المعركة أننا أسياد قدرنا وأن مستقبلنا رهن إرادتنا وملك أيدينا.. وهذا هو النصر الحقيقي.

كاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار