يشيع في سنوات الانكسار والهزائم المتتالية، تعبير الواقعية المقيّدة ضمن ميدانيها السياسي والعسكري لدى الأنظمة المرتبطة بالغرب والولايات المتحدة على وجه أكبر من التخصيص، ولا تقتصر الدعوة إلى التزام الواقعية السياسية (الجديدة) على الأفراد وبعض الهيئات ذات الطابع الحزبي، أو الاجتماعي، ووسائل التواصل الاجتماعي، بل تعدّى ذلك إلى حكومات ودول عديدة استكانت إلى واقع هزيمتها الحضارية الشاملة، التي تتضمّن الهزيمة السياسية والعسكرية بالضرورة، ويتجاوز الأمر حالة الاعتراف بالهزيمة والاستسلام لواقعها، إلى إمعان هذه الجهات بالتبجّح الوقح بـ (واقعيتها)، جاعلة مجرّد الرضوخ والإذعان لمشيئة الأقوى انتصاراً ساحقاً على أولئك الذين يواصلون الكفاح ويرفضون الخنوع والرضوخ لفكرة الهزيمة. المهزلة أنّ الجهات – مؤسسات وأفراداً ودولاً – لا تدّعي أنها انتصرت على الذي هزمها، بل تتبجّح بانتصارها فقط على أولئك الذين يرفضون الهزيمة، ويواصلون السعي والانتفاض للخروج من تحت عباءة الإذلال.
«العربي الجديد» الذي تروّج له أمريكا والغرب، هو الذي يمارس الاعتراف بدونيّته الشاملة، تحت ستار الواقعية، وهو الذي يعترف بالكيان الصهيوني، ويتقن اللغة الإنكليزية، ويسعد بما يتركه له الغرب من الفتات الذي يملأ البطون وينشئ التخمة، وداء البطنة. وجميع ما يبدو خارجاً على ذلك هو من الأمور النافلة التي تسير في معزل عن ضرورة التزام (الواقعية) التي يتبجّح بالتزامها مختلف الخانعين والمهزومين على امتداد الجغرافيا والتاريخ.
لا يتسع المجال للخوض في نقاش مفاهيم الواقعية التي تتشعب إلى أكثر من ثلاثين تعريفاً يقيّد كلمة الواقعية بمرحلة أو اتجاه، ولكن تقييدها بالشأنين السياسي والاجتماعي يعني أنها التي تلتزم التحليل الملموس للواقع الملموس، مع التوجه إلى جعل التحليل المشار إليه يتجاوز إطار الوصف، إلى مباشرة مشروع التغيير، فالمهمّ هو تغيير الواقع إلى الأفضل، وليس الاكتفاء بمجرد وصفه والاستكانة إليه، وعلى ذلك نستحسن التذكير بأن الانتماء إلى الواقع الرديء بحالته الساكنة السالبة هو أكثر أشكال الانتماءات بؤساً، لأنه يغلق في وجه المنتمي «الواقعي» مختلف فرص تحسين الواقع وتغييره، حتى على مستوى الحلم، الحالمون هم واقعيون أيضاً إذا اشتغلوا على محاولة تحقيق ما يحلمون به، حتى لو بدا تحقيق ذلك في خانة المستحيل، ألم يكن طيران الإنسان بواسطة الطائرة في خانة الحلم قبل مئة عام؟ المشكلة أنّ هؤلاء الواقعيين الذين يدعون دائماً إلى مواصلة الخنوع والاعتراف بمحاسنه, ليسوا طارئين على حياتنا العربية الراهنة، بل هم الذين قصدهم المتنبي في بيته المشهور: “يرى الجبناء أن العجز عقلٌ / وتلك خديعة الطبع اللئيمِ”