بكين وواشنطن.. الصراع المفتوح
في العام الماضي 2020، نشر صندوق النقد الدولي في ثنايا أحد تقاريره، ما يفيد بأن الصين، وبشكل مؤقت، قد تفوقت على الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد عالمي، وذلك بسبب الآثار السلبية التي لحقت بالناتج المحلي الأمريكي من تبعات جائحة كوفيد19، ما جعل الاقتصاد الصيني هو الأكبر دوليًا.
ورغم أن النسخة المستجدة من فيروس كورونا قد تفشت أولاً في الصين، إلا أن قوة الإجراءات التي اتخذتها الدولة هناك والبرنامج الذي أعدته لتحجيم الانتشار وللسيطرة على العواقب قد جعلها تحافظ على تميزها الاقتصادي، وتقلل من حجم الآثار السلبية المتوقعة لتلك الكارثة الفيروسية، وذلك بالمقارنة بغيرها من الدول الكبرى التي انكشف حجم هشاشتها.
ويُشعل الصعود المستمر للصين على الصعيد العالمي نارًا في قلب واشنطن، وتتأزّم العلاقات بين البلدين الكبيرين لتصل إلى حد من الارتباك ربما لم يكن مشهودًا من قبل، وذلك رغم انتهاء حكم الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، وهو الذي نقل صراع البلدين من الدوائر المظلمة إلى ساحات الإعلام.
لم تفلح مساعي إدارة ترامب في تحقيق القطيعة التجارية المنشودة بين الولايات المتحدة والصين، فعلى الرغم من تراجع حجم الصادرات الصينية إلى أمريكا، إلا أن الأخيرة ظلت تعتمد بشكل كبير على بكين لتوفير نحو ربع احتياجاتها في العديد من الصناعات.
والحقيقة أن ترامب لم يكن لينجح في هذا “التحجيم البسيط” لصادرات الصين إلى بلاده، من دون التخلي عن مبادئ “الليبرالية الاقتصادية” والتدخل بشكل مباشر لممارسة الضغط على قطاع واسع من الشركات المحلية، مثل مايكروسوفت وآبل وأمازون، إذ لا تزال تلك الشركات تتعامل مع الشركات الصينية للحصول على ما تحتاجه لإكمال منتجاتها.
على صعيد السياسة العالمية يرى البيت الأبيض أن التحالف بين بكين وموسكو يشكل تهديداً متنامياً لحضورها العالمي، وهو التحالف الذي يظهر في التنسيق بين البلدين في الساحات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن عند تناول أي قضية من سورية إلى ميانمار.
ويظهر موقف أمريكا تجاه الصين في التصريحات المعادية التي يدلى بها كبار المسؤولين الأمريكيين، بداية من “وليم بيرنز” مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، مررواً بـ”أنتوني بلينكن” وزير الخارجية، وانتهاءً بالرئيس الديمقراطي “جو بايدن”.
فـ”بيرنز” حسب شهادته بمجلس الشيوخ آذار/ مارس الماضي إبان ترشحه للمنصب، يرى أن “القيادة الصينية مفترسة وتمثل التحدي الجيوسياسي الأكبر لأمريكا”، وأن “التفوق على الصين في المنافسة سيمثل المهمة المحورية بالنسبة للأمن القومي الأمريكي على مدار العقود المقبلة”.
أما بلينكن فيرى أن “سياسة الصين عدوانية في الداخل والخارج”، مع استبعاد خيار المواجهة العسكرية.
وتعكس مواقف وتصريحات بايدن هلعاً من قوة الصينيين المتزايدة، حيث صرح منذ أيام بأن “الصين تفكر في السيطرة على أميركا وامتلاكها في السنوات الـ15 المقبلة”! واصفًا تلك الخطة بـ”الخبثية”، داعيًا العالم الغربي لمنافسة طويلة الأمد مع الصين.
لقد أصبح مألوفًا اعتبار العلاقة بين بكين وواشنطن بأنها “حرب باردة جديدة”، وذلك في إشارة إلى الصدام الهائل الذي اشتعل في النصف الثاني من القرن العشرين بين الأخيرة والاتحاد السوفييتي وشمل كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والإعلامية. وذلك مع مراعاة حضور الخلاف الأيديولوجي في الحرب الباردة الأصلية، بالإضافة إلى انقسام العالم حينها إلى معسكرين ثابتين.
وبينما كان للحرب الباردة بين السوفييت والأمريكيين بعد تكنولوجي رئيسي، من خلال المنافسة في التسلح وسباق الفضاء، فإن التنافس الحالي بين الصين والولايات المتحدة يدور حول التقنيات التي تسيّر مجتمعاتنا اليوم وغداً، كالذكاء الاصطناعي وتقنية الـ “جي5″ وهي التقنية التي تتفوق فيها الصين بدرجة ملحوظة على الولايات المتحدة، ولا تزال الشركات التكنولوجية الأمريكية، تلهث بهدف اللحاق بنظيرتها الصينية بهدف تشييد أنظمة قادرة على توفير سرعة الإنترنت التي وصلت لها الشركات الصينية كـ”هواوي”.
مما لا شك فيه أن العالم في السنوات القادمة سيشهد جولات جديدة من المنافسة بين الصين وأمريكا، وربما يكون المكسب لدول العالم الأخرى مما يحصل هو أن تُثمر المنافسة تطورًا تكنولوجيًا يُحسّن حياة البشر، وأن يضمن الصراع السياسي بين قطبين كبيرين أن لا يتفرّد إحداهما بالعالم، ما يوفر هامشًا أكبر من الاستقلال للدول الأصغر.
*كاتب من مصر