للمساءات دروب تعلق على مفارقها لوحات، تشبه إلى حدٍّ ما وجه ” الموناليزا ” لكنها، بالوقت ذاته، لن ترقى إلى اكتمال التفاصيل، حتى إن ألوانها تبدو في غاية الهشاشة !!..
في داخل كل منا “موناليزا” يعيد رسمها مع كل صباح، ومع الغروب يفشل في إتمام اللوحة، ولا يستطيع البكاء، كما لو أنه “نورس” غادرته البحار، فاستسلمت أجنحته للشواطئ ، حتى صار الريش جزءاً من رمال، وصار للعاصفة بيت يتيم، فقير في أبعاده، وغني بما استضافته من حيطان بلا نوافذ !!..
في عيون “موناليزا” يرتدي الحلم أثواب الزفاف، وقد يظهر على هيئة قرصان يحاول إنقاذ النورس من جناحيه المتيمين بالرحيل، والنتيجة لا شيء، مجرد شوارع تحاصركَ بأبنية شاهقة، ووحدك تقف جاثياً، منهكاً،حائراً، ولا تمتلك الحق بأن يكون لكَ بحر تصارع بفضاءاته المجاهل البعيدة، لتغدو قاب قوسين منكَ، أو من طريق العودة إليكَ ..
في عيون “موناليزا” يعتقلك الفراغ، يطالبكَ بالجري خلفه، حيث لا حدود تثنيك عن الركض، قد تصادف شجرة بذراعين عاريتين، تظنهما في الجزء الأصغر من الدقائق بأنهما وسادتكَ المنتظرة، لكن النوم يجافيك، لا بل إنكَ تتجاهل مرغماً تلك الدعوة التي تدعوكَ للتوقف، أمام حلم ما استهوتكَ تفاصيله في لحظة جفاف، وفضلت أن تسمع حفيف الشجرة عن بعد، فكنت الجاني والمجني عليه، وكنتَ البيدق الذي يقف على باب “الموناليزا” ليحرس الفراغ وزواره من الاندثار، ومع كل مساء سوف تجد نفسكَ متسولاً في ردهات المتحف الإنساني الضيق، تبحث عن “دافنشي” لتسأله عنكَ من جديد، كلاكما يريد إعادة “موناليزا ” إلى الحياة لتغدو الكارثة أقل لؤماً !!..
في عيون “موناليزا ” نبوءة أخرى، نبوءة تخصكَ وحدكَ، نبوءة تجعلكَ على يقين بأنك لستَ ذاك الظن الذي جعلك في لحظة ما نورساً ينتظر من الشواطئ أن تحنو عليه، ولم يكن هناك شجرة تدعوك للنوم على ذراعيها، أو مدن وغرف للاستجمام تغتصب خفيك، كلما ملّ منك ذاك الفراغ، سوف تكون النبوءة بعيدة عن كل ما أرد ” دافنشي” إملاءه عليكَ، وتدريجاً سوف تحررك الألوان من سجونها، لترسم للمساءات لوحة جديدة تجاوزت أبعادها، فلسفة الجمال، وزخرفة الإطارات، وما أُخذ عنوة من غرف الانتظار، وهيمنة الحدود، وانعكاسات الضوء الخفي في متاحفنا القديمة!!..