لم تكن الجزيرة العربية بشكلها الجغرافي الراهن مثلما كانت عليه في زمن غابر يرى الجيولوجيون أنه يمتد إلى نحو عشرة آلاف عام قبل الميلاد؛ فالقارّ في الدراسات العلمية المختلفة في إطاري الجيولوجيا والجغرافيا أنّ الجزيرة العربية كانت بقاعاً خصيبة تتخلّلها الأنهار والجداول في مختلف أرجائها التي تدلّ على وجودها الغابر وديانٌ جافّة تشير إلى زمن كان حافلاً بجريانها المستمدّ من أمطارها المناسبة، التي كانت تروي سكّانها، ومزروعاتهم قبل حدوث موجات التصحّر المتتالية التي أدتّ إلى الهجرات الكبرى باتّجاه مواطن الخصب والمطر في الشمال, وأدّت إلى إفراغٍ تدريجي, ممتدّ على آلاف السنوات, للجزيرة العربية من قوامها البشري الوفير.
وفي السياق الآنف, جرى قسط وازن من بحوث الناقد الراحل يوسف سامي اليوسف الذي فتح أبواباً ومسارات جديدة للتعامل مع شعرنا الجاهلي القديم, في كتابين رصينين تناولا ظاهرة الشعر الجاهلي بعمومه، والقصائد المعلّقات على قدر من التخصيص, ويذهب في سياق ذلك إلى أنّ تواتر البكاء على الأطلال في القدر الأعظم في شعرنا القديم لم يكن مجرّد تقليد فنّي درج على اتّباعه شعراء ذلك الزمان البعيد، بل كان نتيجة الألم الجمعي المتراكم، والمتواتر بتواتر الهجرات الكبرى والصغرى الناشئة عن شكلين من أشكال القهر الفظيع، يتمثّل أحدهما, في قهر الإنسان للإنسان عبر الاقتتال والتنافس الأبدي على إشغال مواطن الخصب، فكانت الجماعات المدحورة المقهورة تضطر للهجرة إلى أماكن أخرى, والشكل الثاني هو قهر الطبيعة المتمثل بموجات التصحّر التي كانت تحدث بتواتر يدفع شعوباً وقبائل بأكملها لترك مواطنها والبحث عن مواطن أخرى في مجاهيل الأرض.
ولذلك، لا يجوز الذهاب إلى أنّ حياة العرب في جزيرتهم كانت وقفاً على أنشطة الرعي والغزو، حسبما يعمل الغرب وكثير من العرب على ترويجه، وترسيخه حقيقةً تاريخية, بل المرجّح, إلى ما يقارب التوكيد, أن أبناء الجزيرة العربية، على امتداد تاريخها المديد، قد مارسوا الأنشطة الزراعية، ثمّ الحرفية، مثلما مارسوا الرعي والغزو وجهاً من وجوه الأنشطة الاقتصادية، بدليل وفرة الجذور اللغوية العربية القديمة الخاصّة بمختلف الأنشطة الزراعية والأدوات الخاصّة بها, مع التذكير بأنّ العرب ، وبرغم دخول معظم الجزيرة العربية في التصحّر، ظلّت الأنشطة الزراعية قائمة في قلب الجزيرة، لا على أطرافها الجنوبية في اليمن وعُمان، والشمالية في العراق والشام فقط، على غرار مزارع النخيل وسواه في يثرب، وفدك، وتيماء ومدائن صالح، والأحساء، ودومة الجندل, وغيرها كثير.