خصّص الباحث السويدي فرانك أوكونور كتابه «الصوت المنفرد» لدراسة ظاهرة القصة القصيرة على المستوى العالمي، ويذكر فيه التالي: لو جرى تكليفي بانتخاب قصص قصيرة من مختلف أنحاء العالم، لاخترت ستين في المئة من قصص الروسي تشيخوف، وعشرين في المئة للفرنسي موباسّان، مكتفياً بالعشرين الباقية لبقيّة كتّاب العالم, ومن التلقائي أن يلقى هذا الانحياز الفنّي إلى الكاتبين الكبيرين اعتراضات رصينة شتى، وخصوصاً من الكتّاب الذين أسهموا إلى حدّ كبير في تطوير القصة القصيرة، غير أنّ هذا الانحياز يؤكّد أمرين؛ يتعلّق أحدهما بقيمة الخلق الفني، وترسيخ النمط، وجعل الريادة قيمة بذاتها، ويتعلّق الثاني بأنّ النماذج الفنّية الأصيلة قادرة دوماً على تجاوز تخوم الزمان والمكان، وقادرة على مخاطبة الإنسان, واستثارة استجاباته الجمالية في كل زمان ومكان أيضاً.
نشرت دار فواصل في اللاذقية مؤخّراً منتخبات من القصص التي كتبها موباسّان في أواخر أيامه الموافقة لأواخر القرن التاسع عشر، واللافت في هذه القصص المنتخبة أنّ معظمها لم يكن متُرجماً من قبل, مع الانتباه إلى أنّ المترجمين العرب في معظم البلدان العربية سعوا إلى ترجمة ما استطاعوا ترجمته من أعمال هذا الكاتب الفذّ، مع التذكير بإغارة صنّاع الدراما السينمائية والتلفزيونية «العرب» على قصص موباسان، من أجل تبيئتها وإلباسها اللبوس المحلّي، من غير أن يشير المغيرون إلى مصادرهم في أمثلة عديدة من حالات السطو والاقتباس, ويضاف إلى ذلك أنّ المنتخبات المنوّه بها آنفاً تبدو على وجه العموم تخالف النزعة الواقعية القاسية التي وسمت معظم ما أنتجه موباسّان؛ إذ يفسح الكاتب الكبير مساحة وازنة على مستويي الكم والنوع لسرد الوقائع التي يقع شخوصها فريسة الارتهان لظواهر ميتافيزيقية عصية على أي تفسير علمي مقنع. وموباسان الذي عاصر الذروة التي بلغتها الثورة الصناعية في حينها، يسعى، أحياناً، بطريقة مختصرة إلى نفي وجود عوالم ما وراء الطبيعة، بوساطة تسويغ علمي أو عقلاني يفسّر ما كان يبدو خارقاً للمألوف، لكنه يترك الخوارق تسير بموجب طاقتها الذاتية على السير والجريان، من غير أي تدخّل واعٍ من جانبه، باستثناء إشارات قليلة أجراها على لسان شخصيات القصة، حين يؤكد، بلسان أحد الشخوص، أنّ قتل الميتافيزيقيا لمصلحة الواقعية الصرفة «الفجّة» أفقر الخيال البشري، وأغلق كثيراً من المساحات الفسيحة المتاحة لممارسة التجوال، تجوال توثّبات الخيال، وتطرّف الأحلام، والرؤى، والأماني، والخوف بمشتقاته من خشية وخشوع ورعب، وسوى ذلك مما ينتمي إلى عوالم الروح.