«قيد مجهول» عمل نفسي يكسر حدود مهنة التمثيل
«ما عم يصدقوني .. يمكن لأني مضيّع هويتي»، بهذه الجملة اختصر الفنان عبد المنعم عمايري عمراً من القهر والفقر وقلّة الحيلة والحال.. لكن ما لا يعرفه “سمير” هو أننا صدقناه وتعاطفنا معه، بل ورأينا الطفل الصغير المرتعد خوفاً داخله حتى قبل أن يظهر في الحلقة السابعة، وهو يشابه إلى حد كبير الطفل المختبئ في مكان ما داخل كل شخص فينا.
هذه الحرب اللعينة يا “سمير”، حولتنا مثلك الى أشباه إنسان يكافح جهد يمناه كل يوم ليكون طبيعياً بقدر ما تسمح له هذه الحياة المريضة، ليكون رجلاً محباً لزوجته غير مخيب لآمالها، ساعياً لتحقيق حياة أفضل لها، ومحققاً لرغبات ابنته في اقتناء (سكوتر) أو شراء حذاء جديد، ومناضلاً لتحقيق حياة شبه كريمة له ولعائلته في زمن الذل والحاجة.
صدقناك إلى تلك الدرجة التي تحدث فيها جميع من شاهد العمل، على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، عن مدى براعة “سمير” عبد المنعم عمايري، متجاهلاً عن غير قصد إبداع شخصيته الأخرى يزن “باسل خياط” وكأن الأخير بالفعل لم يكن له وجود بل بقي “قيد مجهول” كحالة نفسية وهمية ناجمة عن مرض “اضطراب الهوية التفارقي” الذي أصاب “سمير” منذ الصغر، أي إنه لم يكن سوى جزء لا يتجزأ من شخصيته المركبة.
هكذا تنتهي بنا الدوامة التي أدخلنا فيها المخرج الشاب –إن صح التعبير- السدير مسعود تماماً كما بدأت، غير واثقين إلا من شيء واحد، “سمير” هو ضحية من ضحايا الظلم والفقر والاضطهاد النفسي والجسدي، وشخصياته المتعددة على اختلافها تناضل للتمسك بقشة النجاة في دوامة من الرمال المتحركة التي لا تفتأ تشدّنا نحو الأسفل إلى الشر والغضب والانتقام، إلى القمار واللهو العابث والسهر والشرب والسرقة، إلى الرغبات المحرّمة وربما إلى القتل!.
قيد مجهول، رائعة درامية محكمة “التبكيل” من جميع النواحي نصاً وتمثيلاً وأعمالاً فنية وموسيقا تصويرية وإخراجاً، بل إنها تخطت حدود الفن الدرامي السوري وحلّقت عالياً لتخلق بتمردها منحوتةً فنية فريدة ترقص على جثث حياتنا اليومية، مجسّدةً جمالية القبح بأقسى أشكاله.
ألوان جديدة وجريئة لم نعتد رؤيتها، وأسلوب إخراجي احترافي أقرب لصناعة السينما منه للتلفزيون، استخدمه مسعود بذكاء وسلاسة، أدخلنا عبر عدسته إلى عالم سمير الوهمي، في تخيلاته وأوهامه وأحلامه ورغباته، ثم ضفره بذكاء وبساطة بواقع مؤلم يعيشه “سمير” وقد شاركناه عَيشه هذا لثماني حلقات مكثفة.
النص المحكم والتمثيل الاحترافي، والعناية الاخراجية بأدق التفاصيل حتى البعيدة وغير الواضحة منها، كل ذلك قدّم لنا ليس عملاً مميزاً وحسب، بل مخرجاً واعداً لا يتركنا نرتاح دقيقةً واحدة طوال فترة العرض، بل ينهال على عقولنا وأفئدتنا بالضرب المبرح وعلى أبصارنا بالصفعة تلوَ الصفعة ليوقظنا على واقع جديد لبشر تحولوا إلى أشباه بشر، كميتين يتجولون للتعيّش على الأحياء منّا في زمن لا يحاسب فيه إلا الصغار، كل ذلك عبر رؤىً مشهديّة غاية في الاتقان والقرب من الواقع، إلى درجة أنستنا تماماً أننا أمام عمل درامي واقحمتنا في دوامة “قيد مجهول”.
متعة المشاهدة والتشويق والإثارة والغموض، كانت حوامل المسلسل ورسالته العامة وهي – في رأي الشخصي- كانت كافية لحمل عمل درامي، ومع ذلك لا يمكننا تجاهل الرسائل الكبيرة التي مررها “مسعود” وشركاؤه في الإبداع بذكاء مترف، إذ تطرق النص إلى الهوة الكبيرة التي باتت تفصل بشكلٍ فج بين طبقتين اجتماعيتين زادت الحرب من تباعدهما، حيث تعيش إحداهما حياة مخملية فارهة غارقة بالملذات والمحرمات والممنوعات، بينما تقف على الطرف الآخر طبقة من يدفعون حياتهم وصحتهم وأبناءهم وربما شرفهم ثمناً ليتنعم أولئك برغد الحياة من دون حساب.
ليست رسالة واحدة، بل عدة رسائل ضمنها الكاتبان محمد أبو لبن ولواء يازجي وأبدع مسعود في إخفائها بين الجمل واللقطات حتى يكاد لا يقرأها المرء من أول مشاهدة لكثرة ما في الحلقة الواحدة من أحداث، فحياة الزوجة- نظلي الرواس وعملها في تنظيف البيوت بعد أن كانت مدرّسة، وكل ما حمله نصّها من جمل عن عصبية أو عن حب، رسالة، وقد أبدعت الرواس في تقديمها حتى لم نكد نشعر للحظة واحدة بأنها كانت تمثل.
كذلك الابنة ملك “شهد الزلق” بمخاوفها وآمالها وأحلامها الطفولية ومرضها المشابه لمرض أبيها، قدمت رسالة، وهنا لا بأس بأن نلفت نظر مسعود إلى اختياره طفلة -على موهبتها- لا تشبه أيّاً من والديها.
أيضاً شخصية الضحية مثنى “ميلاد يوسف” الغارق في عالمه المخملي الخاص والواصل بعلاقاته إلى كبار مسؤولي البلد والذي أخرج شخصية يزن الخيالية بعد أن كسر سمير عن غير قصد “فازته” التي يساوي ثمنها كل ما سيجمعه سمير طوال حياته، ما جعل يوسف يمعن في إهانته وإذلاله قبل أن يطرده بشخصيتين، ارتكبت إحداهما جريمة القتل الأولى، وهنا تكمن درة العمل.
المحقق خلدون “ايهاب شعبان” قدّم هو الآخر رسالة شديدة الوضوح على عكس ما سبقها عبر حلم يقظة خاطب فيه فاسدي البلد عن كل ما يجول في خاطره، ووعدهم بسقوط قريب.
تحديات واجهها أبطال العمل من مخرجهم وحتى آخر فنيّ فيهم، للخروج بعمل متكامل يشدّك منذ اللحظة الأولى في كثافة تشويقية عالية، قد تجبرك على تنزيل الحلقات وحضورها كاملة على مدى يومين متتاليين, مذكراً إيانا بروايات أجاثا كريستي التي تعجز عن التوقف عن قراءة إحداها ومشاركة كاتبتها في البحث عن أدلة للبحث عن القاتل، حتى آخر صفحة فيها.
حقيقةً لم يكن مستبعداً على صناع الدراما السورية العودة بقوة إلى سكة الدراما العربية، وهم فرسانها ومبدعوها وشيوخ كارها، لكن الجديد في الأمر هو أن هؤلاء راهنوا أيضاً على المنصات الإلكترونية كمقدم أولي للعمل، لينطلقوا منه إلى العالمية، وهو ما سيحصل قريباً، رغم كل الصعوبات والتحديات والعقوبات التي قيّدتهم وتقيّدهم، والتي تبدأ بالعقوبات الالكترونية الأمريكية على سورية ولا تنتهي بأزمة المحروقات والكهرباء وغلاء المعيشة وشح الشركات المنتجة.