يابانيٌّ في سورية أم سوريٌ في اليابان؟
تشرين -جواد ديوب:
جعلتني المصادفاتُ القدرية الجميلة، ولا أقول خوارزميات الفيسبوك الملعونة، أشاهدُ صورةً نادرةً جداً لبائعٍ جوّالٍ من اليابان، التُقطِتْ عام 1890، يجرّ خلفه عربةً تشبه دراجة هوائية بلا مقود، وقد حمَّلَ فوقَها بأعجوبة بشريةٍ مذهلة محتوياتِ دكانٍ صغير: مكانسُ وسلالٌ من القش وصحونٌ بلاستيكية وخشبية وتقريباً كل ما يحتاجه الإنسان في المطبخ… فبدا مثل “عصرونيةٍ دمشقيةٍ متنقلة”!
حين شاهدتُ الصورة، أصابتني لسعةُ المصادفات المذهلة، وأعادت ذاكرتي إلى مشهدٍ يكاد يتطابق حرفياً مع مشهد الصورة، إنما لبائعٍ جوّالٍ سوريٍ، كنتُ أشاهده قريباً من سوقٍ شعبيّ، يجرّ هو أيضاً دراجة هوائية وعليها نفسُ الأدوات المنزلية مع فارقٍ بسيط هو أن صورة الياباني بالأبيض والأسود، فيما مشهدُ البائع السوري احتفظتْ به مخيلتي بالألوان الزاهية لعشرات التفاصيل المطبخية التي رتّبها بتناسق فنانٍ تشكيلي يرسمُ بالفطرة كل تفصيلٍ من لوحته/دكّانه/عصرونيته المصغّرة.
دهشتي “الفرحانة” أو فرحتي بذاك “الطّبِاق الشِّعري” بين يابانيٍ وسوريٍّ كأنهما (الصورة ونيغاتيفُها) أو كأنهما (الشخصُ وظلُّهُ) جعلني ألجأ إلى الزميل العزيز المصور طارق الحسنية لعلّه في تجوالاته اليومية صادفَ البائعَ السوري والتقطَ صورةً أرشيفية له… ولتكتملَ الدهشةُ القدرية وجدتُها لديه فعلاً.
سعادةُ البداهة!
الصورتان شغلتا مخيلتي وتفكيري طويلاً رغم الفارق الزمني المديد بينهما، كيفَ أنّ البشرَ متشابهون في آلامهم وقهرهم اليوميّ وتعبِ تفاصيلِ العيش المنهكة إلى درجة كما لو أن جيناتهم البشرية تختزنُ -مثل النحل- كلَّ الخرائط الوراثية الممكنة التي مكّنتهم من النجاة وسط جحيمِ آلامِ الحياة، وعلّمتهم أنّ “فن النجاة” من الأهوال يكاد يكون في أحد جوانبه هو “فنّ الحياة” ببساطة، أو هو فنّ العيش بسعادةِ البداهة!
وفكّرت بما قالته “سوزان سونتاغ” عن التصوير الفوتوغرافي كيفَ أنّه “على الرغم من أنّ الكاميرا هي محطة مراقبة إلّا أنّ فعل التصوير الفوتوغرافي هو أكثر من مجرد مراقبة، هو طريقة لتشجيعِ ما يحدثُ أمامنا -على الأقل ضمنياً- على الاستمرار بالحدوث، فالتقاط الصور يعني الاهتمام بالأشياء كما هي، بل يعني التواطؤ مع أي شيءٍ يجعلُ موضوعاً ما مثيراً للاهتمام أو جديراً بالتصوير… بما في ذلك آلامُ شخصٍ آخرَ وشقاؤهُ عندما يكونُ ذلك مُلفتاً”!
يا إلهي كم هي اللقطة/الثانية تفعلُ فعلَ التأبيد للزائل، تُرسِّخُ في “كمبيوترنا العقلي” كلَّ ما هو هشٌّ وسريعُ الذوبانِ والانفلاتِ مثل الزمن، بل هي تؤبّدُ فعلياً أشباحَنا نحن البشر الذين لم نعد موجودين فعلياً في فضاء هذا الكون.
وكم هم عظماء أولئك المصوّرون الذين قادهم شغفُهُم أو عملهم أو المصادفةُ القدرية ذاتها إلى أن “يأسروا اللحظاتِ الهاربة” من حياتنا، وأن يؤرشفوها لنا على شكلِ هِباتٍ خالدة اسمها “الصور”، رغم كل ما يمكن أن تختزنهُ من حزن، ورغم أنّ المصور الفوتوغرافي في حقيقة الأمر لا يستطيعُ أن يتدخلَ فيما يحدثُ أمامه لأنه وبحكم كونه إنساناً- ينوسُ بين الرغبةِ في التقاطِ صورةٍ تُخلّده كمصور، وبين حدسه البشري في مساعدةِ أشخاصِ الصورة وهم يعانون ما يعانون… لكنه عادةً ما يختارُ الأولى.
شكراً إذاً للمصورين الفوتوغرافيين لأنهم يساعدوننا على أن ندمجَ الواقعيَّ بالمجاز، أن نؤالفَ بين متعة الخيال حين نفكّر بمواطني بلادٍ بعيدة وبين أشكال وجوههم وأجسادهم في واقعِ الصور، أن نفكر ونتّعظَ بأننا نحنُ البشر نشبه إلى حدّ كبير لمعةَ فلاش كاميرا وصوتَ مغلاق العدسة… ثم لا شيء أكثر.