الولايات المتحدّة شحيحة برفد الإنسانية بالإنجازات الحضارية التي ترسّخ إنسانية الإنسان، وتسهم في تحسين إنسانيته على مختلف الأصعدة، إذ يجري تشبيهها بروما الزمن القديم، من ناحية الإفراط في استعمال القوّة واللجوء إليها في الصغيرة والكبيرة؛ بالترافق مع إنشاء الصروح العمرانية الضخمة، واحترام القانون، لكن أمريكا أنجزت في مجال الفنون البصرية والسمعية أموراً عظيمة، كالـ (بوب آرت) المتعلّق بفنّ الدعاية التجارية الذي يجمع بين التشكيل واللغة.
أتقن اللغوي التشيكي/الروسي (رومان جاكوبسون) اثنتي عشرة لغة أوروبية، قبل أن يبدأ أبحاثه المعروفة في علوم اللغة، وأوّل أبحاثه اللغوية التي أجراها في الولايات المتحدّة تركّزت حول اللغة التي تستعملها الدعاية التجارية الأمريكية؛ وفي معزل عن طبيعة الدراسة الخاصّة بلغة الإعلان التجاري ونتائجها، فمن الواضح أنّ اللغة الخاصّة بالإعلان التجاري، وسواه من الإعلانات والدعايات الترويجية الموازية لغة شديدة الأهمية على عدد من المستويات التي يتصدّرها مستوى المتلقّي المستهدف بالإعلان عن المادّة المستهدفة بالترويج.. تبدو تلك اللغة حريصة على احترام ذكاء المتلقي، وحساسيّته العامّة، وقراءة رغباته وما يمكن أن يثير اهتماماته، بالتوازي مع الدراسة الاجتماعية ضمن الميدان الواسع الذي يرغب صانعو الإعلان باستهدافه.
وفي سياقنا العربي، وسياق هذا الشهر المزدحم بالمسلسلات السورية التي تتسابق المحطات التلفزيونية على شرائها، بدا الأمر أكثر فداحة من مستوى الكارثة، على عدد من المستويات التي تشكّل, بادئ ذي بدء, اعتداء صارخاً وقحاً على المسلسل الذي يمكن أن يكون عملاً متقناً بذل صانعوه كثيراً من العبقرية والجهد والمال في إنجازه، واعتداء موازياً أكثر وقاحة على المتفرّج الذي تتحوّل لديه مشاهدة المادة الدرامية الجاذبة المحترمة إلى عملية تعذيب، وفق الدلالة الدقيقة لكلمة التعذيب، إذ يجري قطع المسلسل كلّ خمس دقائق أو أقلّ لبث مسلسل مواز من الدعايات التجارية السمجة، يستغرق عرضها ما يقارب زمن عرض المادة الدرامية. والأنكى هو مادّة الدعاية ذاتها التي يبدو صانعوها على درجة عالية من الشراسة والعدوانية على الجمهور المتلقّي، بما يعني أنّ عليك أيّها المتلقي أن تكون غبيّاً قبل كلّ شيء، وأن تكون عديم الإحساس، وأن تكون مجرّداً من أي خلفية ثقافية أو اجتماعية، أو حضارية، وأن تكون صبوراً إلى ما فوق المعتاد في الصبر، لكي تتقبّل ما ينزل على رأسك كالرصاص من دعايات غبيّة أعدّها صانعون رديئون لجمهور يفترضون سلفاً أنه على درجة كافية من الغباء الذي يدفعه إلى التفاعل المنشود مع هدف الدعاية.