فعلُ المرء يلقاهُ

ربما تصادفك أمورٌ تكون متطابقةً في الشكل والمضمون وأحياناً تختلف مظاهرها عن مضامينها اختلافاً بيّناً، وما عليك إلّا محاولة قراءة مدى جدوى ذلك، ولعلَّ من المستغرب الكتابةُ عن الخط في عصرٍ بات جُلّ الناس فيه قادرين على الإتيان بما يرغبون من أشكال وأنواع الخطوط الجميلة من دون عناءٍ يُذكر، ولكنَّ المسألة في المبتغى تختلف لأنَّ الخطّ في كثيرٍ من الأحيان لا يكونُ مقصوداً منه الإشارة إلى نوع الخط المكتوب بالقلم، بقدر ما إنّ المقصود الإشارة إلى ما يخطّه المرء فيكون أثراً دالّاً عليه بشاهده وتبعاته اللازمةِ اللاحقة..
يقول ابنُ البوّاب:
لا تخجلنَّ من الرديِّ تخطُّهُ
في أوّل التمثيل والتسطيرِ
حتى إذا أدركتَ ما أمّلتهُ
أضحيتَ ربَّ مسرّةٍ وجبورِ
فارغبْ لكفِّك أن تخطَّ بنانُها
خيراً تخلِّفُهُ بدار غرورِ
فجميعُ فعلِ المرءِ يلقاهُ غداً
عند التقاءِ كتابهِ المنشورِ
ولننظر بعين البصيرة إلى دعوة شاعر قديم إلى النظر في المعاني لا في المظاهر والقشور، فجمالُ شكل الخط لا يغني عن رداءة مضامينه، وأمّا المضمون فهو المعنى المطلوب واللبّ المرغوب:
اِعذرْ أخاك على نذالة خطّهِ
واغفرْ لزلّتهِ بجودة ضبطهِ
فإذا أبان عن المعاني لم يكن
تحسينهُ إلّا زيادة شرطهِ
وهذي هي الشاعرةُ العربية المعروفة بأم الحسن بنت أبي جعفر الطنجائي، تؤكد أنّ الزركشة والتزيين بالقراطيس ليس هو المبتغى، ولكنّ المُراد الأسنى هو مقدار ما يُكتسب من علوم تسمو بالنفوس وترتقي بالمتعلِّمين، تقول:
الخطُّ ليس له في العلم فائدةٌ
وإنما هو تزيينٌ بقرطاسِ
والدرسُ سُؤْليَ لا أبغي به بدلاً
بقدْرِ علمِ الفتى يسمو على الناسِ
ولمن تعلّم الخط الحسن بشكله وزخارفه، لا بأس في أن يأخذ بنصيحة ابن البوّاب، فجمالُ الشكل أمرٌ مستحسنٌ يكمله المضمون الذي هو الهدف:
يا من يريدُ إجادةَ التحريرِ
ويرومُ حُسْنَ الخطِّ والتصويرِ
إنْ كان عزمُك في الكتابة صادقاً
فارغبْ إلى مولاك بالتيسيرِ
أعدِدْ من الأقلام كُلَّ مثقّفٍ
صلبٍ يصوغُ صياغةَ التحييرِ
ثمّ اجعل التمثيلَ دأْبكَ صابراً
ما أدركَ المأمولَ مثلُ صبورِ
فالأمرُ يصعُبُ ثمّ يرجعُ هيِّناً
ولَرُبَّ سهلٍ جاء بعد عسيرِ

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار