تصلب الرمل

«انتقام الجغرافيا» كتاب ألّفه كبير الباحثين الأمريكيين في البنتاغون روبرت كابلان وجرى نشره ثم ترجمته إلى العربية على تخوم الاعتداءات الإرهابية الدامية التي شهدتها منطقتنا، المقولة المحورية للكتاب تتمثّل في الاعتراض الأمريكي الخطير على الخريطة الراهنة للعالم، والخريطة المثلى من وجهة نظر الكاتب هي التي تناسب أمريكا بوصفها حاكماً أوحد للعالم، بينما شاركها في رسم الخريطة الراهنة منتصرون آخرون في الحرب العالمية الثانية كالاتحاد السوفييتي وبريطانيا، ممّا يدّعيه الكتاب أنّ الخطر المحدق بالولايات المتحدة يتمثّل حصراً بالمكسيك، وأنّ الخطر الشديد الذي يتهدّد السعودية متمثّلاً حصراً باليمن، وربّما كان من نتائج هذه الرؤية «الاستراتيجية» أنّ أمريكا بدأت بتسييج نفسها من جهة المكسيك، بينما ارتأت السعودية إزالة اليمن عن الخريطة.
خطورة ما جاء في الكتاب ماثلة في أنّ مناطق (التوتّر) في العالم هي أخطاء جغرافية، يجب على أمريكا تصحيحها بالقوّة، ومن ذلك, تشكيكه بإمكانية استقرار العراق وسورية, بوصفهما إقليمين انتقاليين من الناحية الجغرافية بين مناطق مستقرّة جغرافيّاً، وإقليمي عبور تاريخي وجغرافي.. والأخطر ما جاء بصيغة تهديد لئيم مفاده أنّ على سورية أن تتذكّر دائماً أنّها لا تزال تمتلك بضعة عقارات تشاطئ البحر الأبيض المتوسّط.
لا يماري السوريون في أهمّية الموقع الفذّ الذي تشغله سورية في قلب العالم القديم، وللسوريين أنّ يتنبّهوا أنّ سورية هي مبتدى كلّ قارّة آسيا من جهة الغرب، وأنّها أيضاً هي منتهاها إذا كان مبتدى آسيا هو الشرق، وبحر سورية؛ البحر المتوسّط, يبتدئ من البرّ السوري إذا كان المبتدى هو الشرق، وينتهي عند سورية إذا كان المبتدى هو الغرب؛ وفي نقطة الساحل السوري التي هي البداية والنهاية في الآن ذاته، يستقرّ الرمل منذ ملايين السنين، يستقرّ بصيغتيه الذرّية الناعمة المسحوقة على الشطآن، والقاسية الصلبة في قاع البحر وعلى شطآنه أيضا، لقد استغرق تصلّب الرمل ليصير حجراً رمليّاً ملايين ملايين السنين، وعندما نشأ الجنس البشري، وأنشأت طلائعه الحضارية في منطقتنا السورية مدناً ومستقرّات حضرية عديدة، كان الحجر الرملي هو المادّة الأساس في إنشاء تلك المستقرات التي تتصدر أوغاريت وشقيقاتها واجهاتها. ولم يقف الأمر عند مرحلة قديمة بذاتها، بل استمرّ اقتطاع الحجر الرملي إلى هذه الأزمنة التي بدأت في إعادة الاعتبار لهذه المادة الحجرية وإبراز الحجر بمساماته الخشنة ولونه الرملي الذي يقرّ الحداثة, ويختزن التاريخ, ويزهو بثراء التعتيق.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار