الصفة التلقائية لمن يحاوره الإعلام، هي ضيف: ضيف الندوة،ضيف البرنامج، ضيف الأسبوع، ضيف الحوار، ورَكَز في ثقافة العرب السلوكية إكرامُ الضيف، أيّاً كان وقتُ استقباله وكيفما كان مخبره ومظهره، وفي مرويّاتنا الأدبية والشّفوية حكاياتٌ عن ضيوف استُقبلوا بحفاوة وبعد إقامة أيام عرّفوا بأنفسهم، وضيوفٍ آثرهم المضيف على أهل بيته بالطعام والمنام، ورُصدت له مع الكرَم، البشاشةُ وحسن الكلام والتلطُّف! وبهذا الإرث التلقائي كنا نستقبل ضيف الإعلام فيما يُسمّى «تحت الهواء» ونحن نحترم صفتَه وعلمه ومكانته الاجتماعية، أما «على الهواء» فيكون للاحترام شكلٌ آخر، لأن الضيف لم يأتِ لتناول الطعام على موائدنا والانتقال إلى فراش النوم للراحة، بل لعرض الأفكار، فإذا اختلفت كان الحوار، وإذا تباعدت كان الجدل، ومادام المطروح على المائدة هو الكلام، فإن بوسعه أن يكون من قاموس الاحترام هو الآخر، حتى تنجلي آية الفكرة التي من أجلها كانت الدعوة والاستضافة!
يمكن أن تضبط بيتك العلمي والثقافي والإعلامي على قيمٍ تجلُّها، لكن لا يمكن ضبط الجمهور الذي فُتحت له فضاءات واسعة بلا حدود، لا مِن حيث المزاج ولا مِن حيث التتبُّع، لأنه صار يرى انسحابَ الضيف على الهواء وهو غاضب من المحاوِر، بل تجاوز الأمر ذلك إلى تبادل الضرب وقلب الطاولة وقذف الكرسيّ ثم التلفُّظ بشتائم نابية والمخبوء وراء هذا العرض العلنيّ ليس «الاختلاف» ولا «الخلاف» ولا سخونة الأفكار ولا التحيُّز لها، بل هي مدرسةٌ أُعِدَّ تلامذتُها بعناية من قِبَل أساتذة لتؤدي رسائل مضمرة تترسّخ بالتكرار وأولها تحطيم القيم التي يلتزم بها مجتمعٌ في أخلاقياته، لأن الإهانة تغدو مشرعنةً مادامت تتم بهذه العلنية وبين كبار متعلمين متأنقين متحدِّثين، ومسألةً مقبولة جداً أن يخرجوا عن طورهم ليتشاتموا ويتصارعوا ويتلاكموا قبل أن تنزل الشارة لتنهي العرض على الشاشة، لكنها لا تنهي التأثير العميق في نفس المشاهِد الذي سيسهل عليه ألا يقيم، بعد ذلك، وزناً لكبير أو اعتباراً لذي موقع أو مقام!
قالت لي زميلة شابة، عملها الأساسيّ إجراء الحوارات التلفزيونية والإذاعية، إنها تكاد تفقد الثقة بنفسها لكثرة ما تتلقّى ملاحظات حول أسلوبها في طرح الأسئلة لأن بعضهم يشير عليها أن تكون مستفِزّة وألا تترك ضيفها براحة وأن تعارضه بكل كلمة يقولها، حتى يستيقظ من سباته ويُخرج أفضلَ ما عنده! وهي تعلمت أن الضيف يمكن أن يعطي أفضل ما عنده من خلال الأسئلة والإصغاء الكامل لما يقول، لأنها طلبته بلطف فكيف تفاجئه بالكمائن والاستفزاز المتعمّد؟ وحين نهضت لتلبية نداء المخرج قالت: لن أكون إلا نفسي لأنني لم أتخرّج من مدرسة «الإهانة» الطارئة على الإعلام لسبب يعلمه أصحابها ويعملون على ترسيخها في الفضاء العربي!.