في ظل التبدلات الطارئة والعنيفة والسريعة التي تجتاح العالم بأسره، لا بد من العمل على استنبات أفكار جديدة من العدم، تعمل على تحفيز أمل التخلص من اللاجدوى، الفراغ، العزلة، والرعب – بتداعياته السرية والعلنية – والذي بات يحكم المرحلة بصدر أجوف، مدعوماً بمرجعيات «الميديا» الحديثة.. هي ليست دعوة لمقاطعة الميديا المعاصرة ، ولن تأخذ الدعوة دور الجبهة المضادة للأرشيف الفكري، أو التخلي عن إنجازاته السابقة، وإنما هي واجب مطالب بتأديته «العلوم الإنسانية» اعتماداً على تفكيك البنية النصية للتناص الذي جعل من «الأرشيف» ببنيته الليبرالية عبداً مأموراً ومخلصاً في خدمة تلك الميديا التي تقوم بدور الخادمة المطيعة أيضاً لتطلعات رأس المال بحلته المصرفية الجديدة، التي تعيش بمنأى عن الإنسان، وحقه الطبيعي في العيش بكرامة وأمان..
وبالعودة إلى الأرشيف الفكري الأسبق بدأً من عصر ظهور الديانات ومعابدها المتعددة الآلهة، مروراً بالديانات التوحيدية، وصولاً إلى نهاية العصر الإقطاعي، يلاحظ بأن القيم الفكرية جميعها، كانت مبنية على أساس «اعطِ ما لقيصر لقيصر ، ما لله لله» ومع إرجاء الجوانب السلبية لهذا القانون على الإنسانية، والتي سيكون لها شأنٌ كبير، ليس بإنتاج الأفكار الجديدة وحسب، بل بتبدلات البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، في مراحلها اللاحقة على الدوام، نستطيع الجزم بأن هذا القانون التشريعي شكل في جميع مراحله عقداً اجتماعياً، وقيماً وضعية، ساهمت بإخراج الإنسان وفكره من مخبئه الفطري في المغارة، إلى عالم أرحب أمامه التخلص من الخوف، والعزلة، والجوع، واللاجدوى، من دون أن تطالب أدبياته، ودساتيره قيصراً بإعطاء ماله إلى من حكّموه قيصراً على مصائرهم الدنيوية، إلى أن انحسرت تلك العهود مع سقوط الاقطاعيات، تحت وطأة الحاجة الملحة للصناعات التكنولوجية، والتي سوف تقلب المفاهيم البنيوية التقليدية بالكامل رأساً على عقب، وسوف يكون قيصر مطالباً أمام الله والدستور الوضعي، بتسخير ماله وعزيمته لمن انتخبوه ليمثلهم في المحافل الدولية كمدافع عن حقهم في إبعاد متتاليات الخوف عن صدورهم، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الأرشيف السابق بوصاياه العشر قد شكل نقطة الارتكاز لبداية «فكر تنويري» يتناسب مع المرحلة الجديدة، وهذه الإشارة ليست من قبيل الإدانة لأدبيات عصر النهضة الأوربية، لكنها تصلح لأن نسألها عن طموحاتها، وهل حققت المراد الإنساني الذي كانت تسعى إليه، الجواب سوف نجده عند بلوغ الليبرالية مستواها الأعلى الذي أعاد إلى قيصر – المتمثل في عصر النيوليبرالية برأسمال مصرفي – حقه بجعل الجميع بما فيهم الميديا الحديثة، عبيداً مأمورين بطموحاته، التي لا تعزز في النفوس الإنسانية سوى الخوف والعزلة الاختيارية واللاجدوى المالكة الوحيدة لمسيرتنا البشرية في الحاضر والتي تؤسس بدورها لفقدان الأمل من أي مستقبل إنساني قادم !!