قرار ترخيص المعاهد الموسيقية.. شروط قاسية قابلة لإعادة النظر
في الوقت الذي يتحدث فيه الجميع عن أولوية بناء البشر، وفي الوقت الذي نحتاج فيه إلى موسيقي إضافي، وعازف إضافي، وفرصة عمل إضافية، أصدرت وزارة الثقافة قراراً لترخيص وإدارة المعاهد التأهيلية الموسيقية الخاصة، تضمن شروطاً قال عنها كل من اطلع عليها، إنها تعجيزية بكل ما للكلمة من معنى، وبأنها ستؤدي إلى إغلاق أكثر من 95% من المعاهد الموسيقية الخاصة في سورية، وربما لن يتجاوز عدد المعاهد المحققة للشروط أو التي ستحققها أصابع اليد الواحدة، وخاصة في الوقت الحالي الذي يشهد ارتفاع أسعار جنونياً وغير مسبوق لكل شيء، تبدأ بالعقارات «شراء وإيجار»، ولا تنتهي بالآلات الموسيقية المرتفعة الأثمان أساساً.
لكن وفي الوقت ذاته، ترى الوزارة أنّ الشروط الموضوعة ستضمن عملية تأهيلية صحيحة ومضمونة، وتقول إنها لن تبدِي أي تعنت فيما يخص القرار والشروط، بل أكدّت على لسان مستشارها القانوني بأن القرار ليس نصاً مقدساً، وبالإمكان تعديله، أو على الأقل تعديل بعض ما ورد فيه إن ثبت أنه سيكون سبباً في الإحجام عن افتتاح المعاهد الموسيقية، وتالياً الإضرار بالعملية التأهيلية، لكن بما لا يخل بالغايات التي وضع من أجلها.
شروط صعبة التطبيق
رأى الكثيرون من المهتمين بالشأن الموسيقي والثقافي بشكل عام والذين عرضت عليهم «تشرين» القرار، أن تطبيق الشروط الواردة فيه بحذافيرها صعب جداً في الظروف والوضع الاقتصادي الضاغط جداً حالياً، وخاصة فيما يتعلق بشروط البناء المطلوب، وتأسيسه، الديكور المطلوب، في الوقت الذي على الوزارة تخفيف الشروط بدلاً من تعقيدها، ومن هذه الشروط:
– أن تكون القاعات الدرسية مقسمة إلى أربع قاعات كحد أدنى، منها قاعتان ذات مساحة كبيرة، لا تقل مساحة الواحدة منها عن 20 متراً مربعاً، تتسع لمقاعد الطلبة من أجل الدروس الجماعية، ومجهزة بآلة بيانو ولوج وأدوات توضيحية موسيقية، وأربع قاعات صغيرة نسبياً من حيث المساحة، وذلك من أجل دروس الآلات.
1- أن تكون الغرف جميعها معزولة.
2- أن توفر فسحة سماوية «فناء خارجياً أو وجيبة لا يقل عرضها عن 3 أمتار».
3- أن تكون الديكورات جميعها مستوحاة من الموسيقا، إضافة إلى وجود صور أو مجسمات لشخصيات موسيقية عالمية وعربية ومحلية أيضاً.
4- أن يكون موقع المعهد قريباً من المناطق المأهولة بالسكان، ويسهل الوصول إليه، وبعيداً عن كل ما يؤثر في الرسالة التربوية من مصادر ضوضاء، وعن كل ما يعرّض صحة الطلبة والعاملين للخطر، «كالمقاهي والملاهي ودور السينما وصالات الأفراح والأماكن المماثلة الأخرى، الثكنات العسكرية – المطارات – المصانع – محطات توليد الكهرباء – أبراج التوتر المتوسط والعالي – المطاحن – مصانع المواد الكيميائية ومستودعاتها – مصافي البترول – محطات ضغط الغاز والمواد المشعة – المقالع والكسارات ومجابل الإسفلت – مكبات القمامة ومصانع معالجتها – المقابر العامة – محطات تنقية مياه الصرف الصحي – المداجن وما شابه ذلك».
5- يشترط توافر أثاث مناسب لكل فئة عمرية.
6- خدمات النظافة والحراسة.
7- تأمين وسائل التدفئة والتهوية المناسبتين لمبنى المعهد.
الموسيقا للأثرياء فقط
سامر.ف صاحب معهد صغير في منطقة جرمانا، عندما أطلعناه على الشروط الجديدة، أصيب بصدمة واضحة، ثم قال: بيانو وست قاعات اثنتان منها بمساحة 20 متراً مربعاً وديكورات وصور وخدمات حراسة وأثاث مناسب لكل فئة عمرية؟.
هل يعرف واضع الشروط كم يبلغ إيجار مثل عقار كهذا في منطقة جرمانا على سبيل المثال؟, بالتأكيد ليس أقل من مليون ليرة في الشهر، ومع انخفاض سعر الصرف المتواصل في المرحلة الحالية، قد يرتفع أكثر, ثم ماذا عن البيانو؟ كم عدد المعاهد القادرة على شراء بيانو في كل سورية؟.
يرسل الناس أبناءهم أساساً إلى المعاهد الحكومية بسبب الأقساط المنخفضة نوعاً ما قياساً بالتدريس الخاص، واليوم سيزداد الضغط على هذه المعاهد، لأن أي معهد خاص سينفذ شروط القرار الجديد، سيفرض أقساطاً مرتفعة ومرتفعة جداً على الطلاب، أي إننا أمام تكريس تعليم الموسيقا لأولاد الأثرياء فقط.. هل تقبل الجهات المعنية بهذا؟
زيادة بطالة
ويضيف: أنا مدرس، والتدريس في المعهد هو دخل ثانٍ أستعين به على الحياة الصعبة مع أربعة أساتذة يدربون الطلاب بأسعار زهيدة لأنهم – أولاً – مؤمنون بالموسيقا، وثانياً ليستعينوا بأجرهم الشهري، كل ما سبق لم يخطر ببال الوزارة وببال من وضع القرار وبدأ بتنفيذه في هذا الوقت الصعب؟ ما الغاية من هذا القرار الذي سيدخل المئات في باب البطالة وزيادة الفقر؟
قرار عصري..
لكن رئيس قسم القانون الدولي في كلية الحقوق- جامعة دمشق والكاتب والمهتم بالشأن الثقافي الدكتور عصام التكروري قال: إن القرار من حيث المبدأ هو قرار عصري ومهم لكونه يتعلق بقطاع طالما خضع لمسألة العرض والطلب، وانخرط به العديد من الأشخاص الذين لا يتمتعون بالمهارات الاحترافية اللازمة للارتقاء بالموسيقا بوصفها حاجة أساسية لتهذيب النفس البشرية، ومع ذلك لم أستطع أن أمنع نفسي ـ و أنا أقرأ القرار ـ من التفكير ملياً بإمكانية تطبيقه وتحديداً في بلد بدأت تظهر فيها نتائج الحرب الهمجية التي شُنت عليه منذ عشر سنوات و لم تنتهِ بعد.
شرط غير قابل للوجود
في الحقيقة أكثر ما استوقفني في القرار المذكور هو الشروط التي حددتها المادة 12 لمواصفات البناء, وهي ـ بالمناسبة ـ شروط مُحقّة بالفعل، لكن أخشى أن معهداً يستجمع شروطاً كهذه يكاد يكون غير قابل للوجود في الوضع الحالي لسورية وحتى في مراكز المدن، فأين منّا مكان قريب من المناطق المأهولة، ويسهل الوصول إليه، وبعيد عن مصادر الضوضاء ، وإذا ضربنا صفحاً عن كل هذه الشروط واكتفينا بشرطين فقط: مكان قريب من المناطق المأهولة، ويسهل الوصول إليه، سيظهر لنا أن قيمة عقار بالمواصفات التي ذكرها القرار «من دون الخوض بثمن التجهيزات طبعاً», وبمساحة 100 متر مربع يبلغ بضع مئات الملايين من الليرات بينما أجرته السنوية تتجاوز الخمسين مليون ليرة، وهنا نسأل: كم سيكون قسط معهد كهذا؟.
هذا على صعيد المدينة، أما على صعيد الريف فيبدو الأمر أكثر تعقيداً، لابدّ لنا أن نرعى المواهب التي مازالت تزخر بها سورية بما يتيسر من إمكانات مع التركيز على ضرورة تحسين الوضع المعيشي لمعلّمي الموسيقا الذين ما زالوا يقومون بجهد كبير, ولاسيما في المعاهد التي ترعاها الدولة، والتي لا تتوافر فيها معظم الشروط التي ذكرها القرار, ومع ذلك فإن المواهب التي رعتها وخرّجتها تلك المعاهد مازالت الرافد الأكبر للفرق الموسيقية الأكبر في سورية.
تنظيم لا وصاية
المستشار القانوني في وزارة الثقافة بشير عز الدين أكد بداية أن هدف الوزارة هو التنظيم وليس الوصاية، وما يقال عن إن الهدف هو استفادة الوزارة من رسوم التراخيص الجديدة غير صحيح، فالترخيص لا يحتاج رسوماً أبداً، ولن تتقاضى الوزارة ليرة واحدة، بل على العكس تماماً، هي مستعدة لتقديم المساعدة.
وقال عز الدين إنه ولغاية عام 2018، كل الوزارات لم تكن جهات رسمية تستطيع منح تراخيص رسمية لرعاية الشأن الموسيقي التأهيلي، حتى صدر القانون رقم 7 عام 2018 الذي أتاح لوزارة الثقافة الترخيص للقطاع الخاص لإحداث معاهد تأهيلية موسيقية، وتلافي عدة ثغرات كانت موجودة، منها عدم قدرة خريجي الموسيقا الأكاديميين في سورية على افتتاح معاهدهم الخاصة بشكل رسمي ومرخص، إضافة إلى موضوع ضبط هذه المعاهد، فالبعض من أصحاب المستوى الفني المتدني الذين لا يمتلكون شروطاً تعليمية حقيقية استسهل الموضوع، وتحوّل بالنسبة إليهم إلى ارتزاق، وأساؤوا للعملية التأهيلية.
استعنّا بخبرات سورية
وعن شروط الترخيص التي عدّها بعض أصحاب المعاهد شروطاً تعجيزية، قال المستشار القانوني: إنه من غير المعقول مثلاً أن تكون لحضانات الأطفال شروط تخصص لهم مساحة وتحدد تفاصيل كل شيء، بينما لا يوجد لمتعلم الموسيقا – وخاصة الأطفال – ما يؤمن لهم عملية تعليمية تأهيلية صحيحة، والوزارة لم تضع الشروط اعتباطياً، بل استأنست واستعانت بالخبرات الموجودة في المعهد العالي للموسيقا ومعهد صلحي الوادي لمعرفة احتياجات العازف، فأكدوا أن العازف يحتاج من أجل التدريب مساحة ستة أمتار، وبالنسبة للمناهج، فإن مناهج الوزارة معتمدة في معاهدها منذ 20 عاماً, وتخرّج حتى الثانوية الموسيقية في معهد صلحي الوادي، وهي في حالة تطوير دائم، والوزارة منفتحة على أي اقتراحات لتطويرها، وفي المقابل، وعلى اعتبار أن الوزارة ستلزم المعاهد بشروط ومناهج وساعات تدريسية معينة، فإنها ستعتمد شهادات الخريجين، وتعدّهم مؤهلين موسيقياً.
وفيما يخص وجوب وجود بيانو، الآلة المعروفة بثمنها المرتفع جداً, والذي قد لا تقوى خمسة معاهد صغيرة على شرائه، قال عز الدين: إنّ الموسيقا السورية تعاني اليوم من ندرة العازفين والمختصين في بعض الآلات، ولا تريد الوزارة أن يتوجه جيل موسيقي إلى آلة واحدة أو آلتين، ورؤية الوزارة هي أن يكون المعهد متكاملاً، لذا طلبت هذه الآلة وطُلبت العزل الصوتي والكادر التدريسي المحترف، وفيما يخص رغبة بعض المعاهد بتدريس آلة واحدة بشكل احترافي مثلاً، فمن الممكن تحديد اختصاصات التدريس، وهذه مسائل تفصيلية تعود للوزير ومن الممكن تقديم طلب فيما يخصها، لكن الوزارة تريد تحفيز الطلاب على التوجه إلى كلّ الاختصاصات، عسى أن نجد بعد عشر سنوات مثلاً مختصين محترفين وعازفين على الآلات جميعها.
مشروع وطني
ليس من المستحيل تحقيق الشروط المطلوبة، لكنها إن حُققت، فستكون تكلفتها عالية جداً، بدءاً من مبلغ الإيجار الشهري لعقار بالمساحة المطلوبة، وانتهاء بفرش المعهد والديكورات التي حددها القرار، والآلات الموسيقية والكوادر المحترفة، كل هذا سيفرض على صاحب المعهد رفع الأقساط على المسجلين لتعويض ما دفعه.
هنا قال المستشار القانوني: إن الوزارة تدرك أن صاحب المشروع الخاص غايته الربح، وهي سمحت في القرار بأن يكون الترخيص بأسماء أشخاص عاديين أو اعتباريين، أي بإمكان جهات وليس أفراداً فقط تبني الموضوع، لكن وبما أن الهدف النهائي من القرار هو نشر الثقافة الشعبية الموسيقية، وتنمية الذائقة الموسيقية لدى جيل، فهذا يجعل من المشروع مشروعاً وطنياً، وتالياً على صاحب المعهد المشاركة فيه، وألا تكون أقساطه مرتفعة، وفي الوقت ذاته، لن تقبل الوزارة بخسارة صاحب المعهد، لذا وضعت معياراً بأن تُحدد الأقساط بالتنسيق بين إدارة المعهد والوزارة.
إعادة النظر ممكنة
وختم عزّ الدين حديثه بأن القرار صدر منذ فترة قريبة، ودخل التطبيق منذ شهر، ولم يتبين حتى الآن الإقبال، وأن مهمة متابعة الكشوف والتراخيص منوطة بمديرية المسارح والموسيقا، وهي مديرية نوعية قريبة من هذا الجو، لذا إن لوحظ أثناء التطبيق العملي، أن المعايير تقيد من الدخول إلى هذا القطاع، أو تبين محدودية عدد المعاهد التي رخصت، فمن الممكن إعادة النظر فيها بما لا يخل بالغايات التي وضعت من أجلها، فالهدف الأساس هو نشر ثقافة موسيقية منهجية بمعايير موضوعية نضمن فيها الاستفادة للمتعلم.