بما أن الأدب هو ابن الحياة، فليس من الغرابة بمكان أن تستعين نصوصه بثياب فكرية وفنية جديدة، لتستمر مدوناته عبر الزمن، بتقديم ذاتها على أنها «التاريخ الحقيقي لمن لا تاريخ لهم» بمعنى الأرشيف غير الرسمي لحركة البنى التحتية لأي مجتمع كان، البنى التحية بانقباضها، وامتدادها توازياً مع أي حدث معاصر يمس كيانها التقليدي، هي من تشكل النواة الصلبة لأي منجز أدبي يهجس بغاياته المتعددة الجوانب والطموحات، والمنبثقة من داخل ذاك الأرشيف الحاضر بشخوصه المهمشين بالضرورة، والمغيبين رسمياً بأمر من القائم على حراسة التاريخ.. هذا التضاد البنيوي الذي يرقى دائماً إلى الصراع، هو في حد ذاته، وفي الوقت ذاته، من يلعب دور التكافل، التكامل، والتضامن مع الاستقرار«غير السلبي» الذي يدفع بالحداثة بعمومية أنساقها المعرفية، والاجتماعية، والاقتصادية، إلى المقدمة باستمرار.. هذه الرؤية العامة سوف تدخل طور الثرثرة الكلامية إذا لم نستطع الإحاطة بالمآل، وقراءة تفاصيله، وأسبابه، ومسبباته، وانعكاساته البنائية على المستقبل، هذا الدور مطالب الأديب بامتلاك إحداثياته المعرفية، ليكون لمنجزه الأدبي شأن، ودور مالك في عملية استنبات المستقبل من اللزوميات الإنسانية الملازمة في دوافعها وغايتها للحياة فوق سطح الأرض في تقلباتها الوضعية والمناخية جميعها، وهذا سيفرض علينا سؤال الأدب عن مدى التزام منجزاته المعاصرة بتقديم الصورة الأوضح للمسكوت عنه في ذاك الأرشيف والمصير المستقبلي لشخوصه المهمشين, وما سوف يليها، والتي حددها وباء «كورونا» المستجد، واستطاع التاريخ المعاصر من خلالها إنهاء الليبرالية، والقفز مباشرة إلى ما صار يسمى «نيو- ليبرالية».
«النيوليبرالية» التي سوف تسير بسكان الأرشيف التقليديين إلى التفقير الممنهج، وتجنيدهم حفاة عراة تحت إمرة صانعي التاريخ الحديث، مثلما جنّدهم رحمها في السابق للسير في ركاب الإرهاب.
السؤال ذاته سوف يسأله الأدب لآبائه الشرعيين المكلفين إبداعاً، ونقداً بتدوين مفرداته وجمله فوق الصفحات البيضاء، فهل يستطيع أصحاب الأقلام تقديم جواب شافٍ من خلال مدوناتهم الأدبية الآن، وكي لا نستبق النتيجة المستقبلية، ونحن نتابع المشهد الثقافي – الأدبي المشوه، وإرهاصاته في الحاضر التي نستطيع تبويبها في جدول الخدّج من الولادات القيصرية في غرف عمليات الميديا الحديثة، الملتزمة بأجندة «النيوليبرالية» ، وانعكاساتها الاجتماعية على شخوص الأرشيف أفراداً ومجتمعات, أكرر على عدم استباق الرأي – النتيجة التعسفية التي تطارد المشهد الأدبي وتجعله ضمن النافذة الواحدة عند النظر إليه، مثلما أؤكد على أن مساحة التحرك لسكان الأرشيف في عمل أدبي ما، وأيضاً في الواقع المعيش، مرهونة بالكامل بالبنية الاقتصادية التي تحكم تطلعاتهم وآمالهم على الدوام، هذه التوءمة الجدلية بين الأدب والاقتصاد في عالم الأرشيف، تحيلنا إلى النظر بعين الناقد، المحلل، العارف إلى ما يتم بناؤه تحت إشراف وباء كورونا المستجد، وبتخطيط مسبق من نخب «النيوليبرالية», وتعرية تلك الأجندة من قبل شخوص الأرشيف في عالم الأدب، وقبل ذلك الوقوف على حقيقتها في عالم الواقع المسيّر تحت راية العولمة المختصرة بمسيرة رأس مال الريع.
رأس مال الريع الذي كان يستخدم في السابق الفائدة كمادة أساسية للتحكم بمعدلات التضخم وإبقائها ضمن دائرة السيطرة، أضحى برعاية «كورونا» يضخ الأموال في الأسواق مباشرة على شكل قروض، وهبات، لتعويض الشركات الإنتاجية والخدمية العالمية عن خسائرها بسبب إغلاق الأسواق، بطريقة المد والجزر، هذه الطريقة التي تجعل سكان الأرشيف عبيداً تحت رحمة رأس المال الذي سيكتب التاريخ بريشته الصفراء، لا بل إنهم سيعتادون بالتتابع على اليقين بمصيرهم، وبعدالة هذه الريشة، لتحقيق حلم «النيوليبرالية» في تثبيت أقدامها فوق رؤوس بشر مفرّغة، ليس من فكر التنوير، وفي طليعته الأدب، وحسب، بل من امتلاك القدرة على النطق بل، أو كيف ، أو حتى النظر إلى عبوديتهم بعين اليأس على أقل تقدير !!..