عمار حسن في معرضه «بدء».. يرسم كطفل ويفكر كفيلسوف!
اختار الفنان عمار حسن عنوان «بدء» لمعرضه الأول في صالة عشتار بدمشق، وللوهلة الأولى يعتقد المتابع أن العنوان أتى منسجماً مع انطلاقة أول معرض فردي له، لكن ما سيتضح لاحقاً من خلال مشاهدة الأعمال أن الفنان عاد إلى البدايات في الطبيعة الأم كأنه يبحث عن الأشياء البكر قبل أن تعدلها ممارسات الإنسان فتصبح غير ما كانت عليه.. هكذا يعود عمار إلى طفولته الأولى وعلاقته الوطيدة مع الطبيعة في قريته الكائنة في ريف طرطوس، فينبش المشاهدات التي كان لها الدور الحاسم في صياغة ذائقته الفنية وخياله، كأنه أراد أن يكون وفياً لتلك الألوان الخام التي اكتسبها من الأرض والجبل والشجر والصخور، ورغم أن الفارق الزمني أصبح كبيراً بين عمار الطفل وعمار الفنان والناقد، إلا أن الوفاء لتلك المشاهدات جعله يسترجعها كما كانت عليه مضيفاً عليها من خياله عبر ما اكتسبه من ثقافة وقراءات نقدية ومخيلة غنية، لهذا قلنا إن عمار يرسم كطفل ويفكر كفيلسوف، فاللوحة لديه تحمل جانبين؛ الأول فطري فيه عودة إلى البدايات في الطبيعة الأم، والثاني ثقافي فكري تأملي جعله يرى المشاهدات بخصوصية مختلفة .
رسم عمار التفاصيل الدقيقية التي لا ينتبه إليها أحد في الطبيعة، فكان علينا أن نغوص في ملامح الصخور الصغيرة أو نحدق بالوديان من أعلى، ومرات نرى الأشجار في مختلف الفصول، مثلما هي الأرض تبدل ألوانها بين الشتاء والخريف والربيع والصيف، فزوايا المنظور تتعدد دائماً في الأعمال من حيث الرؤية البصرية، كما أنها تحمل الدلالات المختلفة من حيث المعنى عبر التلوينات والأشكال التي يصورها في كل مرة بشكل مغاير.. كل هذا يؤكد موضوع التأمل الكبير الذي مارسه طويلاً في مراحل الطفولة، لأن التفاصيل الصغيرة والدقيقة التي حملتها الألوان والخطوط لا يمكن الوصول إليها إلا عبر التواصل الطويل والمديد مع الطبيعة، لذلك قلنا إن عمار رسم التفاصيل التي لا ينتبه إليها أحد، لكنها تسحره ما إن يراها .
يسترجع عمار ذاكرته الطفلية عن الطبيعة بحرفية ناضجة، ويحاول أن ينقل الجماليات من جميع الزوايا، ويستخدم في ذلك ألواناً مستمدة من طبيعة المكان أولاً ومن رؤيته الشخصية ثانياً، لذلك يمكن القول: إن ألوانه تميل إلى الهدوء والرماديات مع الحرص على وجود مساحات نافرة تشير للعين كي تتبعها، كأن هذه الألوان الحزينة عبارة عن رثاء للطبيعة التي تبدلت كثيراً رغم أنها بقيت الملجأ الأخير من ضيق المدن والجدران المحصورة، فاللوحات تبدو حزينة فعلاً ولا ينتابنا ذلك الاخضرار اليانع في الشعور ونحن نرى تلك التأملات التي تستفز العقل قبل أن تثير العين، كيف لا، وعمار هو ابن هذه الطبيعة وربيبها القديم الذي خبرها جيداً وعرف خباياها وتبدلاتها منذ سنيّه الأولى.
تظهر بعض الأعمال وكأنها لوحات مريخيّة صورت المركبات المسافرة في الفضاء، وذلك يبدو منسجماً مع ما قلناه حول أن عمار يرسم كطفل ويفكر كفيلسوف، ففي العمل جانبان الأول تقني يتعلق بالفكرة واللون والخط، أما الثاني فهو مرتبط بالدلالات التي تشكل هذه العناصر مجتمعة مع بعضها.. ومثلما تظهر بعض الأعمال وكأنها تصور الأرض قبل ملايين السنين، فإن لوحات أخرى تبدو ابنة الطبيعة الآن، ذلك أن عمار حاول أن يربط الماضي بالحاضر، كأنه يدعو إلى العودة للجذور والتمسك بها لأنها الخلاص الوحيد .
لا يرسم عمار أرضاً خرافية، بل أرضاً مشتهاة مشكوكة بالخيال والتداعيات التي يتعب الذهن وهو يوصلها إلى اليد الماهرة كي تلون المشهد وتعطيه المعاني التي أرادها الطفل الكائن في داخله كفنان، والمتأمل القابع في ذهنه مثل الفيلسوف .