ثمّة أعمال أدبية عديدة تناولت النفوس الضعيفة، كـ«نفوس ميتة» لـ«غوغول»، و«ماتوا ورؤوسهم محنيّة» للتركي «يلماز غونييه», مع التذكير بما صاغه المتنبّي بخصوص الهوان المطابق للموت: «من يهن يسهل الهوان عليه/ ما لجرح بميت إيلامُ», وصولاً إلى عصرنا الذي شهد ما صاغه بدوي الجبل: «نحن موتى, وشرّ ما ابتدع الطغيان موتى على الدروب تسيرُ», وفي موازاة ذلك، اتّخذ الحديث عن النفوس اليابسة الناشفة منحى عنصريّاً «أوروبّياً» سعى إلى ربط الطباع البشرية, والقدرة على الإبداع بالبيئة الأوروبية الخصيبة كاليونان, ضارباً عرض الحائط بكلّ ما أنتجته البشرية في البقاع الأخرى التي ما كان لحضارة اليونان أن تبصر النور لولا ما سبقها من إبداعات عظيمة؛ سوريّة ومصريّة ورافديّة، كانت أرضية مباشرة لما جرى اجتراحه على الأرض الأوروبية.
الدحض الأكثر إفحاماً لنفي العلاقة الاشتراطية بين البيئة الناشفة والنفوس اليابسة الناشفة ماثل في تجربتنا الثقافية العربية التي كانت الجزيرة العربية «الناشفة» مهدها الأوّل, إذ استطاع شعراؤها أن يرفدوا البشرية، بواحدة من أخصب التجارب الشعرية التي عرفها الإنسان على مدار تاريخه الطويل «الشعر الجاهلي». بالتوازي مع التأكيد العلمي الرصين الذي يمنح منطقتنا فضلها العميم على البشرية باجتراح الثورة الزراعية التي لا تزال البشرية تنعم بخيراتها حتى اليوم. وبعيداً عن التمركز حول الذات الجمعية، وما يستتبعها من«تنفّج», وغطرسة قومية، لا يستطيع المرء أن يتجاوز واقعنا الجمعي المريض على الأصعدة المختلفة، التي يتصدّرها تخلّفنا عن رفد الحضارة الإنسانية بأيّ منجزٍ حضاري أو علمي معاصر، واقتران هذا العجز المرير بتفريخ آلات القتل والمجازر, والسعي الغربي الواعي، والـ(العربية) الجافّة الناشفة, بالجغرافيا المبتلاة بالجفاف والقحط، وجعله ربطاً تلقائياً, مندرجاً في خانة الحقائق العلمية.
لا شكّ في أن مثل هذا الربط يحظى برواج متعاظم بين مختلف الأوساط المجتمعية التي ترى الهجرة إلى الأقاليم الجغرافية «الأوروبية» الخصيبة وسيلة لمجابهة الجفاف وتمثّلاته الناشفة، وسبيلاً لممارسة التخصيب بدلالته الأشمل؛ ولا يجدينا الآن غير رفع الصوت بشأن محاسن الأوطان، لكن، لا بدّ من الالتفات إلى أن البحث عن أسباب ابتلاء بعض النفوس العربية بالنشفان التاريخي المزمن يجب أن يتخذ منحى مختلفاً معزولاً عن النشفان القائم في إطار الجغرافيا.