إذا عظَّمَ البلادَ بنوها
قد تفارق الوطن ببدنك وجسمك، ويبقى قلبك متعلّقاً بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة، الحسيّة والمعنوية، فالوطن قيثارة الشاعر، ووقع خفقاته إليه يجذب المسافر وعليه يحرص ذوو الألباب، وإذا كانت أرض الوطن مثوى أفئدة المسافر، فإن أمانيه أن يعود ليضمه بجسده، يقول ابن حمديس:
أحنُّ حنين الصبّ للموطن الذي
مغاني غوانيه إليه جواذبي
ومن سارَ عن أرض ثوى قلبه بها
تمنى له بالجسم أوبة آيب
وإذا كانت المحبة عند أهلها تجسد العطاء فإن الرجال الأكثر وعياً هم الأكثر إدراكاً لقيم الأوطان غير القابلة للدخول إلى أسواق البيع والشراء، وما أجمل أن يكون الوطن بيتاً للنفس والروح أو بدناً لها، وتلك جماليات توصيف يداعبك بألطافها قول ابن الرومي:
ولي وطنٌ آليت ألاّ أبيعَهُ
ولا أرى غيري له الدهر مالكا
فقد ألفته النفس حتى كأنه
لها جسدٌ إن بان غودر هالكا
وكذا الأوطان تكرم أبناءها الذين يجلّون ويعظمون مكانتها، وتبادلهم بذلك ما صنعوا، فيكون لزاماً أن يجنوا ما زرعوا، فتتوجُ هامهم كما توّجوا هامها بالغالي والنفيس من الحب المتدفق من دون تكلّف أو مراء، وعلى رأي أحمد شوقي:
إذا عظّم البلادَ بنوها
أنزلتهم منازل الإجلال
توجّت هامهم كما توجّوها
بكريم من الثناء وغالِ
ويتأمل الشاعر خليل مطران في هوى البلاد والديار، فيقبّل ثراها ويبقي على ودّه الأصيل، فيفدي كل حبة ترب وصخر، ويرمي بجمار غضبه جشع الطامعين، ويطبع قبلات الحب والوفاء والحنين على خريطة الوطن شكلاً ومضموناً، فالهوى لايزال هو هو فطرياً لا نكد فيه ولا رياء:
بلادي لا يزال هناك منّي
كما كان الهوى قبل الفطام
أقبّل منك حيث رمى الأعادي
رُغاماً طاهراً دون الرَّغام
وأفدي كلّ جلمودٍ فتيتٍ
وهى بقنابل القوم اللئام
لحى الله المطامع حيث حلّت
فتلك أشدّ آفات السلام
وللمتأمل باصرة وبصيرة، فلنتأمل مع أبي تمام كيف تغتني البلاد وتزداد ثراءً ونماءً وازدهاراً بحب وتعاون وعون ووعي أبنائها المخلصين:
وإذا تأملتَ البلاد رأيتها
تثري كما تثري الرجال وتعدمُ!
وأحب أن أختم بكلام أهل الذوق على لسان أبي الطيب المتنبي الذي يصرُّ ويؤكّد على المصداقية في بر الأوطان:
وما بلد الإنسان غيرُ الموافقِ
ولا أهلهُ الأدنون غيرُ الأصادقِ!