على رموزنا رموزٌ ونِصال

ما إن تُرجم كتاب «المثقفون» لكاتبه الإنكليزي «بول جونسون» الذي يُعرَّف بأنه صحفيٌّ ومؤرِّخ وهو مولود عام 1928، على يد الأستاذ الراحل «طلعت الشايب» حتى تلقّفه بعض المثقفين العرب بحفاوة من بلغ الواحة بعد طول مشيٍ في الصحراء.
قال المؤلف على سبيل توضيح سبب التأليف: «مئتا عام تقريباً منذ بدأ المثقفون العلمانيون يحلُّون محلّ الإكليروس القديم لهداية البشرية وإصلاح أحوالها، وقد فحصنا عدداً من الحالات الفرديّة لأولئك الذين حاولوا تقديم النصح والإرشاد، فحصنا مؤهلاتهم الأخلاقية ومواقفهم، لا مِنَ الإنسانية بشكل عام وإنما من البشر على نحو خاص! كيف يعاملون أصدقاءهم، زملاءهم، خدَمهم، وقبل ذلك أسرَهم»، وسرعان ما سيواجه القارئ «جان جاك روسو» و«كارل ماركس» و«جان بول سارتر» و«أرنست همنغواي» و«برتولد بريخت» و«نعوم تشومسكي» وسواهم من الأعلام الذين عرفتهم البشرية عبر الترجمة! هنا سيضع «جونسون» الجميعَ من دون استثناء على طاولة تشريح ويمزق أعضاءهم بلا رحمة، ولن يكتفي بهذا بل سيُخرِج الأحشاء، ويرصد الفضائح التي لا خطوط حمراء فيها: الكذب والنفاق وأبناء السفاح والتدليس والخيانة والشراهة والازدواجية وادعاء الإبداع، بحيث لم يترك في بناء سمعة هؤلاء حجراً على حجر! لكن ليس كل قارئ يدوس على الرّكام ويمضي وهو ينفض الغبار عن حذائه، ولهذا صُدمتُ بكاتب عتيق أحترمه يقول لي ساخراً: هل تعلمين أن شهداء السادس من أيار ليسوا إلا عملاء سفارات غربية؟! هنا حلّت لحظة استنكاري التي جعلتني أتخطى المجاملات: إذا كانوا يريدون تحطيم رموزهم لغاية في سياساتهم الخفية، بعيدة المدى، فلا يعني إلا أن نتمسك برموزنا الذين مازالوا قريبين في الزمن وفي الرفعة! «جونسون» اعتبر هؤلاء الأعلام «أكليروس» من نمط مُحدَّث، أما «عبد الحميد الزهراوي» و«رفيق رزق سلوم» و«شكري العسلي» ورفاقهم، فليس من شأننا أن نعرف كيف كانوا يستحمّون، وهل كانوا يقلون البيض بالسّمن أم بزيت الزيتون، نحن سامحناكم في تبنّي النظريات المستوردة في الشعر والرواية والفن التشكيلي، وتعايشْنا مع معارككم «الفكرية»، أما فيما يخصُّ رموزَنا، فلا! ولا… ولا… لا يعيش شعبٌ من دون رموز عالية في الفكر والقيادة والإبداع والبناء، وقولك إن التاريخ يكتبه المنتصرون للغمز من رمزٍ هنا أو هناك، لا يغيّر من الحقيقة شيئاً، لأن لهذه الحقيقة مناهجَ واختباراتٍ عقلية وزمنية ولا يحق لنا أن نطلق الأحكام بخفةٍ، أو بدافع التقليد وفرحة العثور على عدسة مكبّرة ربما أُعدّت من أجلنا ورُميَت لنا ببراءة مزعومة، ويكفي أن الكاتب مرّر فكرةَ أنه أنزل هؤلاء الأعلام من هالتهم الإنسانية، إلى واقعهم البشري، ونحن نعي تماماً الفرق بين الإنساني والبشري، فلنوفّر هذه النصال على رموزنا العالية.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار