عززت ثورة الاتصالات الحديثة من ارتفاع المنسوب الكمي للكثير من المصطلحات الفكرية التي دخلت عالمنا العربي، بعد أفول عصر الاستعمار الغربي التقليدي، وصار لا بد، بعد تعميم هذه الثورة الالكترونية، وسهولة الحصول على أدواتها العينية، من الاعتراف أمام الذات بأن القسرية التي دخلت بها تلك المصطلحات من دون اسقاطات واضحة من قبل الهوية المحلية، استطاعت أن تؤسس لفوضى فكرية نجني ثمارها الآن، ليس على صعيد النخب المتصارعة داخل حلبات الحداثة، وما بعدها، أو على الصعد التي اعتمدت التراث والأصولية كندٍ مالك في ذات الحلبة، وحسب، وإنما على الصعيد الشعبي الذي استطاع أفراده، من خلال منابر التواصل الاجتماعي، الدخول إلى الحلبة كلاعبين لهم مطلق الحرية في تأويل المصطلحات بناءً على رغباتهم الشخصية، ومن ثم نشرها كرأي، ومطالبة الآخر بقبوله، هذا إذا تجاهلنا الغاية القصوى التي يبتغي الوصول إليها هذا الرأي الذي حصل على مساحة ما من الشاشات التي اتخذت من أصابعنا سكناً دائماً لها..
يفترض مصطلح الحوار- كمؤسس لمجمل القضايا الفكرية المجردة والواقعية بآنيتها – وجود طرفين مسكونين بالهم العام، بدأً من الضروريات التي تطالبنا بها الحياة للحصول على عضويتها، مروراً بقضايا الهوية التي تشكل الجزء الأكبر من الخصوصية الرافدة أبداً لبنيتنا النفسية، والمعنوية، وصولاً إلى الهم الانساني «الطوباوي» الذي لن يجزئ ذاته إلّا لغاية سيادة العدالة بين الغالب والمغلوب. هذه الفرضيات بتشظيتها المدونة والشفهية، تفترض الوصول إلى مستقبل أكثر أمناً وسلاماً..المستقبل، المشار إليه، يفترض بدوره التخلي عن الماضي لأجل إحلال سلطته التعسفية، والتي لا يمكن التخلي عنها مهما بالغنا بالانتماء للماضي بقريبه وبعيده، على حد سواء، هذه الصراع السري الذي ينتمي بمعظمه إلى مرجعيات لم نكن مساهمين في بنيتها الأصل، سيكون أداة طيعة لقمع الهويات الأضعف، والسير بها إلى خطر الزوال، والنتيجة هي أن الحوار، وكل ما أتت به تشعبات مصطلحاته وفرضياتها في عالم التنظير الفكري والواقع معاً، لن يأخذ الدور المنوط به كصانع سلام لا بدّ من وجوده لإحلال مستقبل خالٍ من الحروب، فإذا اعترفنا بأن المشهد العالمي قد تم بناؤه على هذه الشاكلة ليخدم مشاريع الأقوى، فالضرورات القصوى تفرض علينا الإقرار أمام الذات بأن سكان العالم العربي محكومون بأزمة إنتاجنا الفكري على الصعيدين الشعبي والنخبوي، وللخروج منها لا بد من الإقرار بضرورة النظر إلى هذه المنظومة الفكرية بعين الناقد الحيادي، ومن ثم العمل على تفكيكها بشقيها الحداثوي، والتقليدي، وإعادة البناء من جديد على أسس تخدم الهوية القومية، والمشروع الإنساني، على حدٍّ سواء، المشروع الانساني الذي فرض من قبل ثورة المعلومات على سكان الأرض ليعيشوا في قرية واحدة اسمها العالم، ومع كل خطوة بهذا الصدد لا بدّ من الإقرار بأن منظومتنا الفكرية السابقة، كانت، ومازالت تستمد من مراجع القرن المنصرم أسسها البنائية، بمعنى آخر؛ الإقرار بأن سرّ الأزمة الفكرية التي نعيشها على شكل اغتراب، قد بدأت بمحاولة تهجين الهوية بمرجعيات اصطلاحية لم تكن من انتاج واقعنا بالأصل، وإن كانت هناك محاولات للابتعاد بهذا الانتاج عن التبعية، فإنّ المشاريع الفكرية والإبداعية العربية في القرن العشرين لم تستطع إلّا تعزيز تلك التبعية بفوضوية عقدة الخصاء التي لازمت إنتاجنا الفكري، واستمرت بطريق أكثر وعورة وضياعاً، نستطيع تلخيص إحداثياته بالقول: إنّ أسس حواراتنا مازالت -إلى الآن- تنتمي إلى تلك المرجعيات السابقة، بذات الوقت الذي يطالبنا القرن الجديد بأن نكون شركاء إنسانيين في معطياته الحالية انطلاقاً من الخصوصية التي تشكل الهوية، وتجعلها بالضرورة الانطلاقة الحقيقية لأي مشروع فكري غايته إحلال السلام ..