مجرّدُ حيرة ..!

سرَدت «إيزابيل الليندي» غزيرةُ الإنتاج الروائيّ، في آخر كتبها غير الرّوائية الكثيرَ من ذكرياتها وآمالها التي بترها الزمان، ولم تأسَ على أنها صارت ترى ذلك الضائعَ من الأمل، مثلَ أحلام الطفولة الصاخبة، وكعادتها، هي المتكلمة بتدفق، مرّت بأيام صباها وتجاربها العاطفية, و«ببيت الأرواح» أولى رواياتها ومعاناتها مع ابنتها المريضة «باولا» لتنتهي إلى أنها تُمضي الآن وقتها بالقراءة وهي مستلقية بجوار زوجها الثالث الذي ارتبطت به وهي في السادسة والسبعين!.
خلال دفق التفاصيل التي تتسم بها الكاتبة في كلّ أعمالها سيتوقّف القارئ عند جملة: – اليوم أعاني من الطريقة التي يجب أن أخاطب بها أولادي فهم يرفضون صيغةَ أنتَ وأنتِ لأن فيها تمييزاً للجنس ويجب أن أخاطبَه وأخاطبَها بـ: أنتم!! في هذا التفصيل يتلاشى سحرُ الرياح العاصفة التي تواكب حكايات الكاتبة الجانبية المسليّة، ويتوقّف القارئ مليّاً أمام حال الأجيال المعاصرة وطريقة تفكيرها، فالمسألة ليست احتجاجاً على ضمائر المُخاطَب، ولا على عجز اللغة أو «تخلُّفها» بل في صميم الموقف من الإنسان الذي تنحَتُ له النيوليبراليّة شكلاً يُخليه من سماته الخَلْقيّة والخُلقيّة، وسابقاً كانت هذه الثقافة مجرد تنبؤات هجائية ساخرة بدأها الكاتب الروسي «يفغيني زامياتين» في روايته «نحن» ليتأثر بها «ألدوس هكسلي», ويكتب روايته «عالم جديد شجاع» و«جورج أورويل» في رواية «1984», وغيرهما كثيرون!..في هذه الروايات التي كُتبت أوائل القرن الماضي سيبدو الإنسان آلة تفقد روحها في مجتمع يتحول بسبب آليات إنتاجه إلى مدجنة تفقيسِ أعدادٍ من الفئات: صالحة للإدارة, صالحة للكدّ في العمل من دون تذمّر, صالحة للمشاركة في السباقات الجماعية, صالحة لتنفيذ الأوامر من دون اعتراض. وكل فئة لها لونٌ مميّز«ربما تبسيطاً شديداً للتمايز الطبقي», والواقع أن العالم تغير خلال عقود قليلة من الزمن، بحيث أن قراء تلك الروايات ومحاكمتَها كانوا أندرَ من الندرة، قياساً بمستخدمي وسائل الاتصال اليومَ، عبر العالم، وقدرتهم على التواصل والتأثير المتبادَل فيما بينهم! فهل كان اختراع هذه الوسائل، فوق خيال الروائيين الذين أفزعتهم الدروب التي يُساق فيها البشر كالقطعان، لا تحكمها إلا غريزة الانسياق؟.. جموعٌ من الأفكار التي تروّج لرفض كلّ القيم الإنسانيّة التي بلورتْها البشرية في مسارها الطويل وتخلّت خلال هذا المسير عما يسيء إلى الترابط والتعاطف والإيثار والرحمة والصدق، وفي خدمة هذا الرفض الفجّ كانت جمعيات ومؤسسات ومنظمات و«قادة» وصحف وأقلام ودعاة تحت شعارات جذابة: لا للمجتمع الذكوري! لا للمجتمع الأبوي! لا لمؤسسة الزواج! نهاية التاريخ! مجتمع الأمومة الزراعي! الآلهة الأنثى! وليس هناك من مشكلة في كل هذه الشعارات، إلا في التوظيف القصدي وإلى أين المصير!.
لم تكن حيرتك يا «إيزابيل الليندي» هذه المرة، نوعاً من التعبير الطريف عن مشاعرك، بل هي التحدي الأعظم لنا، كمربّين، كيف سنثبت لأبنائنا بمنتهى البساطة، أن تمتعهم بجنسهم: ذكراً أو أنثى هو من طبيعة هذا الكون المتنوّع، الثري بتنوعه، المتّسق بتعدّد بل وبتناقض عناصره، ولا، ألف لا، لهذه المبالغات التي تجري في المقلب الثاني من الأرض، وهو ليس مقلباً جغرافياً، بل مقلبٌ فكريٌّ وأخلاقي!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار