بعد تسعة أشهر على مقتل جورج فلويد الأمريكي من أصول إفريقية في 25 أيار 2020 اختناقاً على يد الشرطة الأمريكية، وما أعاده هذا الحدث، من فتح للجروح العنصرية العميقة في الولايات المتحدة، شهدت مدينة مينيابوليس شمال الولايات المتحدة يوم أمس محاكمة الشرطي ديريك شوفن المتهم بقتل فلويد..
اللافت أنه عشية المحاكمة، سار الآلاف في شوارع المدينة خلف نعش رمزي أبيض مغطى بالورود للمطالبة بالعدالة مرددين عبارة “لا عدالة، لا سلام” وهي العبارات التي قطعت صمت الحشود الغاضبة طيلة الوقت..
لقد جال المتظاهرون في محيط مقر الحكومة المحلية التي شهدت المحاكمة، حاملين لافتة كتب عليها آخر كلمات فلويد “لا أستطيع التنفس” بعد أن ضغط الشرطي الأبيض على عنق فلويد مدة تسع دقائق، ولم يأبه خلالها الشرطي لتوسل الأربعيني الأسود ونداءاته المتكررة “لا يمكنني التنفس”، وواصل الضغط حتى بعدما دخل فلويد في غيبوبة..
لقد بدا مبنى المحكمة كأنه معسكر محصن مع أسلاك شائكة وكتل خرسانية، وهي إجراءات اتُخذت تحسباً لحصول تجمعات على هامش جلسات الاستماع؛ كما تم حشد آلاف من رجال الشرطة والحرس الوطني، وعبر كثير من المتظاهرين خلال المسيرة عن خشيتهم من خروج شوفين من المحاكمة بلا عقاب.
ليس “فلويد” وحده الذي لا يستطيع التنفس، بل أمريكا “لا تستطيع التنفس” فبعض الحقوق في أمريكا لا زالت إلى اليوم مشروطة باللون، والعنصرية تفوق أحياناً دعاوى الحرية، وما نشهده اليوم من تمييز هو السبب والنتيجة.
فدرجة قتامة بشرتك في أمريكا تهمة غير معلنة، قد تدان بها وتحاكم وتعدم، أحياناً في الشارع، بل وربما تحت أقدام رجال الأمن.
لقد أشعلت عملية قتل فلويد الشارع الأمريكي جرّاء المعاملة العنصرية التي مازال يحظى بها الملونون في الولايات المتحدة، وما يبعث على التساؤل حول الأسباب والدوافع وراء هذه المعاملة التمييزية.
إن كل ما يقال اليوم عن حريات وحقوق إنسان في الولايات المتحدة، هو مجرد شعارات، ولسال حال الكثير من الأمريكيين يقول إنه لو أن الزعيم الحقوقي الأمريكي ذا الأصول الإفريقية “مارتن كينج” كان يعلم أن حلمه سيتحول إلى كابوس بعد أكثر من نصف قرن لما أقدم على المطالبة بقانون الحقوق المدنية، وحق الانتخاب، وإنهاء التمييز العنصري ضد اللون أو الدين والمعتقد والجنس، فالتمييز لم ينقطع، ولجورج فلويد أشباه كثر..
فضلاً عن هذا فـ”كينج” أشهر زعماء النضال ضد التمييز العنصري في أمريكا والذي مازالت خطاباته وآماله وأحلامه ببلد تساوي بين مواطنيها بغض النظر عن العرق والدين والجنس تتردد أصداؤها في جنبات الأرض كلما ذكرت حقوق الإنسان، لم يكن يدري أنه لن يحظى حتى بميتة عادلة.. بين عامي 1991 أي منذ تبرئة المحاكم الأمريكية لضباط شرطة لوس أنجلس الذين أبرحوا مواطناً أسود ضرباً من دون وجه حق، وعام 2020 عقد من الزمن والولايات المتحدة لا زالت نفسها حيث تضج بالاحتجاجات وأعمال الشغب وصولاً إلى مقتل فلويد.
أيضاً لا تقتصر مشاكل مجتمع الملونين الذي يشكل حوالي 13% من سكان الولايات المتحدة على التهميش والعنصرية فقط، وإنما يعاني من عدة ظواهر مقلقة أيضاً لعلَّ أبرزها الفقر.
إذ يعيش 24.7% من السود تحت خط الفقر، أي ما نسبته 12.7% على المستوى القومي الأمريكي.
تمر الأعوام وتتبدل الأزمنة، لكن القناعات العنصرية في أمريكا، تأبى أن تسكن الماضي أو أن تتغير.