كان يبهرني باختصاصه وما كلُّ اختصاصي يُبهر!
دكتور في علم النفس، عزّز علومه في بلد أوروبي وعاد ليفتتح عيادة في إحدى الضواحي، وهو ليس طبيباً يداوي الآلام البدنية ومرضاها، بطلب التحاليل والصور الشعاعية وميزان الحرارة وجهاز الضغط، بل بالإصغاء المركّز ونظرة العينين الهادئة التي تعرف متى تسلّط إشعاعها على وجه «المعاوِد» ومتى تشيح عنه، ومتى تبتسم تلك الابتسامة الشبيهة بضوء غير ساطع، يرجُّ كيان مجالسه الباحث عن العودة إلى ألفة الواقع!
لم أسمع منه كلمة اختلطت في حروفها عكارةُ اللغة الأجنبية التي نال بها شهادة الدكتوراه، ولا تلك المقارنة المتعسّفة بين ضحالة الناس الذين يعاشرهم ويحتكُّ بهم، وبين رقيّ «الآخر» المتحضّر، لا تعالٍ على الهيئة التدريسية في الجامعة ولا على الطلبة ولا على المقرَّرات ولا على بائع الخضار الجوّال ولا على صاحب الدكان الصّاخب الذي ينهر صبيّ التوصيلات ولا على سائق الحافلة الصغيرة الذي يحشر الركّاب في الصّباح لإيصالهم إلى عملهم في وسط العاصمة، وهو يحمّلهم «جميل» مغادرة دفء فراشه وفقدان راحته! كان ينظر إلى الآخرين من دواخلهم ويراهم مغلّفين بظروف قاسية، فأستذكر فيه تلك النظريات التي فتنت جيلاً حين انتشرت أسماء: «فرويد» و«إدلر» و«كارل يونغ» رغم أنه لم يلجأ إلى أي واحدٍ منهم لتعزيز فكرة يقولها! البساطة كانت جوهر شخصه وسلوكه، لكن القريب منه سيلحظ أن هذه البساطة مشبعة بشيء ليس مألوفاً عندنا، كالصراحة اللامتناهية حين ينهي لقاءً أو جلسة أو يعتذر عن موعد أو ينتقد مبالغة في الوصف أو في طريقة تقديم الضّيافة لزائره، فهو حاملٌ لغبار طلْعٍ اجتماعيٍّ آخر مهما أوحى بعكس ذلك! وكتب الباحثون والرّوائيون كثيراً عن مغادرة الجسد للأمكنة وبقاء النفس والروح فيها، متمرّدة على العودة إلى التوازن والتعايش والسلام، حتى كان يومٌ نتحدّث فيه عن مرضٍ شائع هو «الشقيقة» وقال فيه: هذا ألمُ إنسان لم تتوفّر له ظروفٌ ليعيش كما يريد! محيطٌ معاكس لكل الرغبات والقدرات التي تختزنها النفس، سيسلط «الشقيقة» كنوعٍ من ردّ الفعل، وقبل أن يكمل، رنّ هاتفُه فأجاب محدِّثَه بلطف فائق: عثرت على رقمه بالأمس واتّصلت به ودعوته يوم الجمعة وقبِل الدعوة، ابحث عن فلان الذي يعمل في سوق «الميدان» بائع علف طيور! وبدّد فضولي فور إغلاق هاتفه وهو يفرد ورقة أمامه، سُجّلت فيها أسماء: بدأت أبحث عن أقاربي منذ حين، اكتشفت أن شجرة العائلة كبيرة ومتفرّعة ومتنوّعة كأنها مجتمعنا برمّته، وأنا بصدد لمِّ شمل هذه العائلة بشكل دوريّ! سنتعارف ونتقارب ونتعاضد ونسترجع ما أضاعه الزمان في التّباعد والمشاكل والهموم.. نجحتُ حتى الآن بإقامة جسور عديدة مع أقارب كنت أسمع ذكْرَ أجدادهم وآبائهم في بيتنا، يوم كنا أسرةً تامة لم تتعدّد فيها الدّروب!
كان هذا منذ عشر سنوات! كان نبوءةً للإعصار الذي عصف ببلدنا وعاث، أول ما عاث في سلام الأسرة والعائلة، وما من وطنٍ، مهما بلغ اتساعه، يكون وطناً، بلا عائلة!