ببطء تسير الشوارع على أوتار العجلات السريعة، ووحدك من يقف بجانب شجرة عريضة توزع أغصانها فوق رأسك على شكل أصابع تستعد للعزف!!..
لم تكن هي الصدفة اليتيمة التي يلازمك بها اليقين بأنك “آلة كمان”، فقد تمكن بك هذا الشعور مذ كنت شاباً تتوسد المفارق والممرات الضيقة علّها تأتيك بحبيبة تشفي رأسك من حرارة الصيف، ولن تكون هي العارضة الوحيدة التي ستحاول بها التخلص من أوتارك المجزومة بأحرف تقف عائقاً في حنجرتك لتمنعك من النطق، لكنها هي المرة الأولى التي سيخونك بها الصوت لتلتحق طوعاً بحفيف الإطارات المطاطية التي لم تتأخر يوماً بملازمتها لصباحات اعتادت أن تجعل منك بطلاً مجهولاً يساكن الرصيف برمزية موسيقا لا تقوى على البوح، وكنت تتنكر دائماً لهذا الإصرار الجاف الذي لازم ساعاتك المراقة بالخطوات العجولة التي كنت تستجديها لمتابعة الجري خلف أتون الحاجة، وتتابع العزف، علّ الشجن يستطيع الوقوف أمام هذا المد المقيت!!..
ترفع رأسك لتلتحم عيناك المتعبتين بأعلى الشجرة، تسأل الحمامة سراً عن أشياء كنت تعرفها، فلا تجيبك، هي أيضاً تتوهم بأنها “آلة كمان” ومثلك أيضاً خانتها العلامات الموسيقية على مرأى من جميع الأوتار التي كانت تشكل اللحن لهذه المدينة المعتقة بالجرار المليئة بالتحليق إلى ما يقارب الغيم، أو هذا ماكنت مؤمناً بحدوثة، حتى في حال تأخر اللحن عن الالتحاق بأحجيته الزمنية، فإن الأمل متمكن من جنحي الطير، مهما بالغ الكمان في استيداع سره المكنون بتقاسيم الهديل!!..
بالأمس كان لتلك الأجنحة هواء يحملها إلى حيث تغتسل المدينة بالثلج، وكان اللحن يمهر بخواتم لا تخلو من الدمع، لكنها تتجزأ إلى تفاصيل تخفف لحين من وطأة الهديل، إذ أن الأوتار في تناغمها مع أصابع الأشجار، لهي قادرة على أن يكون لبحثك عن المضمون معنى يوازي الاحتمال في تقلبات الفصول !!..
تسألك، من جديد، أغصان الشجرة العتيقة التي تختبئ تحت ظلها عن ظلك المكنون بجسد الكمان، عن أوتارك التي رسمت بها شوارع المدينة عندما كان للانتظار طعم العنب المعتق بقوافي الفخار الذي كنت تشدو، وأنت تجتر الصبر تلو الآخر، فلا تجيب، هل ملّك الكلام، كما الحمامة التي فرت حافية من بين أصابع الأشجار، وتركتك تسجدي أوتارك المقطعة من اللحن المستكين لاعتقادك بأنك “آلة كمان” في زمن تسير به الشوارع ببطء على أوتار العجلات السريعة، ولا من دليل !!..