إذا كان هناك من صراع بين “الثقافة” و”الحضارة” في العصر الراهن، فهذا يعني أن البشرية تسير نحو حتفها المؤكد!..
المفكر، والسياسي البوسني علي عزت بيغوفيتش يرى أن الثقافة هي “الخلق المستمر للذات”، أما الحضارة فهي “التغيير المستمر للعالم”، وبين “الخلق” و”التغيير” يبدأ هذا الصراع على شكل “تضاد بين الإنسانية والشيء”.. فعلى أي وسادة أسند علي عزت رأسه، ليستخلص بأن هناك هوَّة بين “الخلق” و”التغيير”، فإذا كانت التجربة التي عاش مرارتها في “البوسنة” هي الأساس المالك لهذا الرأي، فإن الموافقة عليه ستكون في المقدمة، ونحن نبحث عن الأسباب التي جعلت من العالم العربي والإسلامي موقداً يقوم بمهمة تأجيج نار الصراع بين الجار وأخيه على مدار الساعة!..
في مكان آخر، يرى علي عزت بيغوفيتش أن موضوع الثقافة، هو موضوع ثابت يدور حول فحوى “لماذا نحيا؟” أما الحضارة فهي تقدم متصل يتعلق بالسؤال عن “كيف نحيا؟” أول سؤال هو عن معنى الحياة، أما الثاني فهو عن كيفية هذه الحياة.. فهل هذان السؤالان كافيان لمتابعة الصراع السائل: نسأل، وفي البحث عن الإجابات نرى التناقض الذي نعيشه في ذاتنا العربية وهو يظهر للعيان على شكل نار عشوائية لا تحمل سوى هدف واحد هو القتل، وتقديس الموت، على غرار حضارة مصر القديمة التي لخصتها “أناييس نين” بقولها (.. فكل شيء في حضارة مصر القديمة كان من أجل الموت، فالناس ولدوا ليموتوا، أو ولدوا ليستعدوا للموت)!..
لا شك بأن السرعة التي تسير بها الحضارة الحديثة، خلقت فجوة كبيرة، وتناقضاً ساخناً بين “لماذا نحيا؟” و”كيف نحيا؟”؛ ولكن الإجابة لن ترقى ليكون هناك تضاد بين الخلق والتغيير، فكلاهما يشكلان المنطلقات النظرية لأي ثقافة تطمح لأن تكون نقطة تشاركية في مسيرة الحضارة، أما الواقع فهو من يعزز هذا التناقض، الواقع المفروض على أن نحياه في مجتمعاتنا العربية مرغمين، ونحن لا نملك مقومات بنائه، ونحن نستورد لبناته من ثقافات أخرى، ثقافات أنتجت حضارتها للإجابة على سؤال شعوبها عن الهدف من الحياة “لماذا نحيا؟”..
إذا كانت الثقافة هي عملية، غير حسابية، تسير تلقائياً، وقسراً ضمن مرجعيات الحاضر، فإن الإنزواء في دهاليز الماضي خوفاً من مستجدات الحاضر سوف يبعدنا عن الهدف الأساسي من الحياة، ولماذا نحيا، لا بل إن عدم تناول هذا الخوف نقدياً لغاية إبعاد الشر الذي تحمله لنا ثقافة الاستهلاك الوافدة، فسوف يسير بنا إلى تقديس الموت السريري والمعلن بذات الوقت، واعتباره ثقافة تدعونا للتمسك بها تجنباً للغرق في وهم الحضارة الحديثة، وهذا سوف يعزز في نفوسنا أكثر التناقض بين الثقافة والحضارة، بين الخلق والتغير، هذا التناقض الذي قرر مستقبل البوسنيين، ويسعى إلى تقرير مستقبلنا في العالم العربي والإسلامي بأبشع الصور.