وصيفة الياسمين

نهلة سوسو :
يقيم في دمشق منذ سنة بسبب العمل!
جاء من ريف داخلي فسيح، بعضُ مائه من الينابيع والعيون، وكثيرُه من غيوم السماء، وخلافاً لما تحدّث عنه نقّاد الأدب عن “صدمة المدينة” بما يشبه فخرَ البحارة والملاحين حين اكتشاف القارات، بدا كأنه عائدٌ إلى حضن أمِّه، ينتظر أن تُنزِل غطاء رأسها، وتحلَّ ضفائرها، وتضع الدبابيس جانباً، قبل أن تأخذ المشط تسرّح شعرها، وتنادمه بحكايات المساء! صار من عاداته أن يبحث عن معاني كلمات القصائد، في الأبواب السّبعة والساحات والأسواق والأزقة والسّور والمآذن والأقواس وأبراج الكنائس وما تركه بردى من السواقي المتخفّية في الحارات القديمة، التي أوهمت الزمان أنها خرجت منه إلى الأبد! وكان وحيداً لا رفيق له في مسيره الطويل، المتقطّع في الزمن، المتّصل في الوعي والانتباه، وحين صارت الذّاكرة تخلط التفاصيل المتشابهة، أخذ يصوّر، وإذ ضاقت ذاكرة هاتفه الجوال التي تؤنسه حين يخلو إلى نفسه، يسترجع تفاصيل جولاته عائداً إلى نفس الأمكنة مستمتعاً بمشاعر أشدّ عمقاً، صار ينشر الصور لتبقى محفوظة وهو يعي مفارقة: النشر يعني الحفظ!! ومن المفارقات أيضاً التي استجدّت على وعيه، أنه لم يجد وقتاً للدهشة الملازمة للسّحر، كأنه ينجز مجلّداً وينتظر اكتماله، حتى تكررت صورة بين آلاف الصور النفيسة ولم يستطع الفكاكَ منها: شجرة النارنج حيثما التقاها، في حديقة منزلية، على منعطف زقاق، في بناء رسمي عتيق، في فسحة الخانات المستخدمة كدكاكين، في المتاحف والمدارس الصغيرة، تبدو بهية الاخضرار مثقلة بثمار الذهب! – لماذا لا تُجنى هذه الثمار؟ – ما مصيرها باقيةً على أمّاتها؟ – متى تخلي مكاناً لأزهارٍ جديدة؟ هذه الأسئلة ألحّت عليه لأنه ابن ريفٍ يجني ثمر الشجر المزروع دون أن يهمل حبّة زيتون أو تفّاحة أو عنقود عنب أو ثمرة تين، وكذلك يفعل حتى مع الشجر البري، من توت العليق إلى حبّ الآس، ومع الأعشاب الربيعية من الخبيزة إلى الهندباء، فما حال هذه الشجرة مع أهلها؟ – ثمارها مُرّة، لا تؤكل؟ تجيبه السيدة الشّامية: منها نأخذ ماء الزهر، ومنها نصنع المربى، وهي مغلي منعش في الشتاء والصيف! أما لماذا نتركها فهي لكل راغب من الزوار والعابرين، يأخذ كفايته ليغلي الثمار بعد تقطيعها أو ليصنع المربى، ولطالما عاد بقليل مما صنع لأهل الشجرة!
في منعطفٍ، وعلى غير انتظار، رأى اللوحة التي تأملها طويلاً، طويلاً، وهو يحبس أنفاسه غير مصدّق: شارع النارنجة! ما لم تقله السيدة الدمشقيّة عن هذه الشّجرة: إنها علَمٌ من أعلام المدينة، مثلها مثل القادة والمفكرين والشعراء والفرسان والمؤرخين والشهداء وإلا ما كانت حظيت بهذه اللوحة الأنيقة المخطوطة بحروف مكتملة الجمال! تركها على يمينه وهو يغادر، وحوله سحابة من عبق الياسمين! هي مظلومة فقط عند من سمّاها: مدينة الياسمين، وأهمل وصيفتها الأولى التي تقاربها في الجمال والأسرار والحضور والسخاء…

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار