فاتح كلثوم:
على الطرف الآخر من الحياة .. الطرف الموازي لكل خطوة اجتهدت الأيام في تسجيلها باسمك ضمن أرشيفٍ طويلٍ قابلٍ دائماً للنسيان، لكن الذكريات بإلحاحها عليك – سوف يكون هناك ما يكفي لفسحة من الوجد – سوف تقوم بمحاولاتٍ شتى لتخطيها تحت عناوين متفرقة؛ أهمها أن ذاك الماضي تجاوزك، ولم يترك لك سوى رؤية نقدية له، تلك الرؤى سوف تقبع بالمكان السري من الذاكرة، وسوف تعيد تفاصيلها على ضوء شمعة كلما تمكنت منك براثن الحاضر أكثر ..
بين الماضي والحاضر هناك أشلاء ممزقة تحاول رتقها بعجز الصبر الذي تجاوز في علو جرفه إمكانات العبور، لكن الإصرار على المتابعة يجعل الأمل ذا جناحين بريش طفل يبحث عن ريح تساعده على التحليق.. للرياح طقوسها المشاكسة، ولك ما امتلكه ذاك الطفل الذي لن يملّ من مرافقتك على الدوام، لن يملّ من اصطحابك إلى حيث كانت النحلة تزرع في مخيلتك الأزهار التي تأمل قطفها لتكون نقاط علام تفصل الصفحات عن بعضها في دفترك المدرسي، ذاك الدفتر الذي قادك تدريجياً إلى التخلي عن أثر الأزهار وهي تفترش بتلاتها مع الفجر لتكمل للنحلة سيرتها الذاتية، مازلت تحتفظ بأوراقه في محفظتك الصغيرة، وأنت تجتاز المفرق تلو الآخر ظناً منك أن إشارات المرور الحمراء سوف تغادر المدينة التي اخترتها مؤخراً، وبما أن للمدن قوانين تجرم من يعاكس الصفرات التي يطلقها اللون البرتقالي ليحث انغماس قدميك على متابعة الجري وسط كل ما يحيط بك من زحام وغموض، فسوف تتخلى بالتقادم عن مشاكسة اللون الأخضر، وسوف تكون شوارع المدن جزءاً لا يتجزأ من امتلاكك للهرب من هوس النحلة..
مراراً سألك ذاك الطفل، وأنت تقف على ساقٍ واحدة داخل الحافلة، عن مصدر ذاك الهوس الذي يجعل من الأزهار والنحل حليفان في مواجهة الملل الذي يحكم عمرهما القصير إذا ما تمّ قياسه بالوقت المخصص لموعد تخلصك من ضجيج المحركات الفاقدة لتسجيل اسمك على عجلاتها، هذا الفقد الذي تعودت عليه بالتقادم جعل منك حالة افتراضية تتعجل الوصول إليها، فهل تقوى على حل المعادلات المطالب بالنظر إليها عند كلّ التحاقٍ بذكرى ما، أو بجسد حافلةٍ جديدة تنتظر منها أن تقلك إلى حيث يكون الطرف الآخر من الحياة أقل كثافة في توازيه معك، وأنت تقف صامتاً أمام شارة المرور التي تمنعك من أن تكون نحلة !!..