حدود الشعر

هناك موقفان من الشعر، أحدهما يضع حدوداً صارمة للنص الشعري تحشره في خانة (الكلام الموزون المقفّى) ويطلقه الثاني إلى أقصى الآفاق, وأعماق الإنسان، نافذاً بذلك إلى مختلف أشكال التعبير التي تشتمل الأنواع الكلامية, وتتجاوزها إلى بقية التآليف الجمالية التي أنتجها الإنسان في سياق الاستجابة الجمالية التي تبديهما الحواسّ العليا كالسمع والبصر.
ولا يمضي الإطلاق في سياق المبالغة، فالمتابع يطالع كثيراً من الأعمال الرصينة التي تتناول الشعرية البصرية, وشعرية الموسيقا، وشعرية الموقف الإنساني، وشعرية التعبير الجسدي بوساطة الرقص والتمثيل الدرامي، وشعرية المنظر الطبيعي الساحر، وما إلى ذلك.
ولا شكّ في أنّ تحرير الشعر من مختلف الضوابط الشكلية، بوصفه نوعاً أدبيّاً متحدّداً في سياقه التاريخي الخاص، وأشكاله المتواضع عليها, يجعل الناس جميعاً قادرين على إنتاج الشعر؛ وهذا ما ذهب إليه أبو العتاهية الشاعر المعروف في الحقبة العبّاسيّة, في سياق التعقيب على ظاهرة الإكثار من نظم الشعر، وقدرته الخاصة على تحويل أي كلام إلى شعر، قال: «الناس جميعهم شعراء، لكنهم لا يعرفون ذلك». ولم يكن أبو العتاهية يقصد الكلام الشعري المتحرّر من الوزن والتقفية، بل كان يعني إمكانية إخضاع مختلف أنساق الكلام إلى ضبطها نظماً موزوناً مقفى، على الرغم من اتّهامه – في حينه – بتجاوز العروض، وعدم المبالاة بما جرى التواضع عليه من التزام الأوزان المعروفة في علم العروض. وقبل أبي العتاهية, كان لعرب الجاهلية موقف أكثر رحابة من النوع الشعري، جعل بعضهم يصف القرآن أوّل نزوله بالشعر، قبل أن يتحرّوه بوصفه كلاماً يتعالى على المتواضع عليه من تآليف البشر, بما يعني أنّ عرب تلك الآونة كانوا يمتلكون فهماً للشعر يجعله يتجاوز التقييد بالوزن والقافية، حسب (كمال أبو ديب).
يقرّ في أذهان أبناء منطقتنا العربية ذات الجذور العميقة الضاربة في التعاطي مع الشعر الذي لا يجاريها في إنتاجه أمة أخرى من أمم الأرض، أنّ شخصية (الإنسان الأمثل) لا تكتمل من غير أن يكون شاعراً، إننا نجرّب كتابة الشعر منذ معاناة أولى تجاربنا الشعورية مع الحياة، وبعضنا يستمر، وبعضنا يكفّ، مع وعينا بأنّ إنتاج النص الشعري القابل للقراءة يحتاج إلى أكثر من تفريغ المعاناة الشعورية, بعيداً عن معايير شدة المعاناة ورخاوتها، وبصقها كلاماً ملقى على عواهنه فوق الورق من قبل، وبثّه الآن على مختلف وسائط التواصل الإلكترونية التي اكتسحت الأفئدة والعقول جاعلة الناس جميعاً- بمن فيهم أولئك العاجزون عن فكّ الحرف- شعراء.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار