قلقةً بشكل لافت، تروح وتجيء وهي تحضن بضع أوراق بيضاء، لا تكفُّ عن محاولةِ جعلها متطابقة تماماً، وبيدها قلمٌ تشبّث بالأصابع، أو تشبّثت به تلك الأصابع، ملامحها تتعكّر: الواجب اليومَ هو كتابةُ مقال!
تسألها الأم المنشغلة بحديث مكتوب على هاتفها الجوّال، مع إحدى مريضاتها: كأنك في مصيبة ولم تكتبي واجباً من قبل! اجلسي على طاولتك وابدئي، بدل هذا الرّواح والمجيء مثل نحلة تائهة! تسيل الدّموع فجأة من عينيّ الطفلة المحقونة بالتّوتر: هذا مقال وليس موضوع تعبير…
تفتح الملاحظة العابرة للطّفلة، أبواباً واسعة، لتأمّل حقيقة اختلاف الأجناس الأدبيّة أو الفكريّة، فقد ميّزَت المقال عن موضوع التعبير الذي أتقنته بالخبرة والتكرار في مقرّرات المدرسة، لذلك شعرت بمعاناة أمام خبرة جديدة، ستخوضها للمرّة الأولى!
-ما موضوع المقال؟
-دور الشباب في مستقبل الوطن!
-حسناً! هل كان هناك حصة تحدثتم خلالها عن هذا الموضوع؟
-هاكِ القصيدة التي تتحدّث عن الشّباب! نحن الشّباب لنا الغدُ ومجدُه المخلَّدُ.
-إذن ستستخدمين معاني القصيدة في المقدِّمة!
-إذا كتبت مقدمة، يجب أن تكون هناك خاتمة!
-أحسنتِ! وبين المقدِّمة والخاتمة، يكون موضوع المقال كلّه.
تحتجُّ الطفلة بكل ما أوتيت من عصبيّة:أعرف، لكن ماذا أكتب؟
-هيّا قولي لي ماذا يفعل الشبّان الذين تعرفينهم؟ تذكّري!
تهدأ الطّفلة وهي تسرد: يدرُسون في المدارس والجامعات، يعملون في العيادات الطبية، يبيعون في المكتبات والمتاجر، يزرعون في الحقول، يعلّمون في المدارس والمعاهد، يعتنون بالمرضى في المشافي، يسوقون السّيارات العامّة، وبعضهم بملابس الشرطة ينظِّمون المرور، وهناك شبان يقدمون الطعام في المطاعم، هل تتذكرين الذي أشعل الشموع في عيد ميلاد رفيقتي؟
-يعني الوطن يعمر بكل الذين ذكرتِ، وكلُّ من يعمل بإخلاص في مكانه يجعل هذا الوطن مثلَ البيت الجيّد، الذي يحتاج صيانة دائمة، ليبقى قويّاً أمام العواصف، جدرانه متينة وسقفه سليم والطريق إليه معبّد وآمن!
قفزت الطفلة بفرح، وقالت حركاتها إنها ستتّجه إلى طاولتها لتبدأ الكتابة: لن أنسى العسكري! كلّ الذين كانوا يقفون على الحواجز كانوا شبّاناً! أليسوا هم حرّاس البيت والوطن؟ كل الشبّان يكبرون إلا الجيش الذي أحبُّ ملابسه ونجومه وسلاحه ووقفته باسماً حين كنا نمرُّ قربه!
تطمئنُّ الأمّ حين تنصرف الطفلة وتجلس على كرسيّها، من دون أن تشرع في الكتابة، فلا أجد بدّاً من التّعليق: الكلمة الأولى هي الأصعب في المقال، حتى بالنسبة إلى الصّحفي المتمرّس، لكن حين تتجاوزينها ستأتيك الأفكار من تلقاء نفسها، وستعلق فيها معلومات مخزونة من معارفك وثقافتك، كما يعلق العطر بخلايا اليد حين ينسكب من قارورة، فالمقال يبدو فكرةً واحدة، لكنه ليس كذلك، لأنه من الذكاء أن يسوِّق باقات من الأفكار والمعلومات والمواقف، التي تجعل قارئه شريكاً، ومهتمّاً، بموضوعه، ما أوسعَ عالمَ الصحافة، وما أشقّ الطّريقَ فيه وإليه!.