ثمّة نقاش مستفيض أقامته المدوّنة النقدية حول العلاقة بين التجربتين الشعوريّة والشعريّة, وبعض ما يمضي إليه النقاش أنّ الثقافة العربية أقامتْ فرقاً نوعيّاً بين الشعر والنظم، مستدلّة على ذلك بالجذر اللغوي العربي الذي يجعل الشعر والشعور ضمن حزمة دلالية واحدة، من غير أن تذهب إلى الربط الاشتراطي المتبادل بين الطرفين، فالتجربة الشعوريّة لا تؤدّي بالضرورة إلى إنشاء (تجربة شعرية)، لكن خلق الشعر الصافي يحتاج إلى تجربة تخضّ الشعور والوجدان، وتحدث اهتزازاً عنيفاً في العالم الجوّاني للشاعر، لتنشئ (مسافة توتّر) في النسق النصّي، تحيل على التوّتر الذي أنشأها في العالم الواقعي، بحسب د. كمال أبو ديب. غير أن الأمر يتجاوز ذلك إلى آفاق وتفاصيل أغزر وأكثر تعقيداً بطبيعة حال الشعر الذي كان الشكل الجمالي الأوّل الذي أنشأته البشرية في مختلف توضّعاتها المكانية والثقافية. فهناك الخبرة الجمالية، وهناك التعلّم والظرف العام المفتوح على كامل التاريخ والجغرافيا وتوتّرات الحياة الاجتماعية وتبايناتها الحادّة.
وذلك غير كافٍ أيضاً، فالخبرة الجمالية يجري اكتسابها بالتعلّم وممارسة الإنتاج، ولكنها تتطلّب ذاتاً مرهفة تمتلك خاصّية الانبهار والاندهاش بمفردات العالم الذي تتعامل معه بعين طازجة، ترى كلّ شيء كأنّما تراه أوّل مرّة، على غرار ما فعله (ناظم مهنّا) في كثير من قصص (الأرض القديمة) وقصيدته الطويلة (الطرف الآخر للرمّل).
من طبائع إنتاج المادّة الجمالية في شتى الميادين والأنواع الفنّية أن ينبري المنتج إلى صنع مادّة جميلة لم تكن موجودة من قبل؛ ومن طبائع هذا الإنتاج أن تكون العوامل غير النصية كثيرة ومتنوّعة، يحيل عليها النصّ الأدبي، من غير أن يقولها بشكل مباشر. وأفترض أنّ أديباً مثقّفاً، واسع الاطّلاع، وشامل الثقافة لديه دوماً ما يدهشه في طبيعة هذه الأرض القديمة الواقعة على الضفّة الشرقيّة للمتوسّط، وفي طليعة المدهش هذه الكميّة المذهلة من التاريخ التي تدفع الرائي إليه أن يكون “طفلاً في الألف الخامسة” يقرصه “نمل كنعانيّ” وهو يتأمّل ذلك التاريخ الجاثم أمامه “على مرمى حجر” وأن يكرّر دعوة المعرّي لتخفيف وطء الأرض التي “وطئتها أقدام شعراء العرب” أولئك الذين نقشوا على بشرة الزمن “كلمات تزهر في العتمة” ونحن نقرؤها في “بقايا حياة داسها الزمن”. لا يتسّع مجال هذه المادّة لمتابعة (الطرف الآخر للرمل) لكن حسبنا أنّنا نعيش على هذا الطرف الآخر، وحسب النصّ أنه أيقظ فينا هذا الشغف الذي “يعوي على جنباته” وجعلنا “نسمع دبيب النمل في القيعان تحت التراب”.