مسالمةً، بدت… في قصرٍ غارقٍ في السّحب، تحته الحدائق المعلّقة التي، في وصفها، يشطح الكاتب في الصّور، واللغة، والأوصاف، فما يترك للقارئ قدرةً على نسج المشاهد أو جمع تفاصيلها، لتثبيتها برهةً في ذهنه، وكيف يفعل، حين يجد نفسه بين دجلة والفرات وأعمدة المرمر وبساتين البرتقال وغرائب الطيور وجيوش من الخدم الذين يأتمرون وينفّذون كأنهم عازفو فرقة موسيقية، حولهم كلُّ ما يجري، صفوةٌ من فنٍّ وهندسة وشعر وحكمة، أما الحكاية فهي كالعادة، حكاية أميرة يريد أبوها أن يزوّجها زواجاً لائقاً على عادة الملوك في عقد الصفقات، ولأنه يحبّها حباً يقارب تقديس الرّوح، يضع على الخاطبين شروطاً صعبة، منها أن يستعملوا قوس “نمرود” الصيّاد الذي لم يعرف له التّاريخ مثيلاً، وأن ينازلوا في الميدان أسداً هصوراً، ويتغلبوا عليه…
سنرى في بابل، على المائدة الملكيَّة، فرعون مصر، وملك الهند، وخان ياجوج وماجوج، والكاتب العظيم فولتير لا يتسلى بتقليب أوراق التّاريخ أو استرجاع سحر ألف ليلة وليلة في روايته الآسرة، بل يُلبس شخصيّات الملوك سماتِ حضاراتهم، سواء في وصف الهدايا التي حملوها، أو في السلوك الشخصي والأحاديث العلنية، والجانبية، وردود الأفعال التي يقومون بها حيال مضيفهم، أو الحاشية التي ترافقهم! ولأن حكايات القرون الغابرة، تعتمد التراجيديا، لن يفوز واحدٌ من الثلاثة بيد أو قلب الأميرة، بل سيخرج من صفوف المتفرجين شابٌّ وسيم، شجاع، حكيمٌ، متواضع، ليستخدم قوس نمرود، وينقذ الخان من الأسد ويعطيه دواءً شافياً لجروحه، ثم يغادر إلى ضفاف الغانج لأن خبر وفاة أبيه، وصله وهو مازال في الاحتفال!
تبكي الأميرة العاشقة الفتى همذان وسفره المفاجئ، فيجفف رفيقُه طائر الفينيق دموعها، ويواسيها في ليالي أرقها الطويلة، ثم يمضي معها في رحلة طويلة وراء الحبيب، بعد أن قال العرّاف، إنها لن تتزوّج، إلا بعد أن تتشرّد في بقاع الأرض، ويسمّيها الأب الطيب: رحلة حجٍّ إلى أحد معابده المقدّسة في الجزيرة العربية!
ستكون الرواية في حدِّ ذاتها، حجّاً رائعاً في بلاد الشرق وحضاراته الإنسانية الخالدة، لا يغيب فيها، انبعاث طائر الفينيق الذي قتله فرعون مصر، بعد أن أحرقت الأميرة رفاته، على أعواد القرفة والقرنفل، وقد خرج أشدَّ ألقاً وقوةً ووفاءً، كما لا يغيب حضور السومريين، ولا شعب الصين، ولا إشبيلية الأندلس، ولا سكّان فلسطين المغامرون، لكن التعظيم الأكبر يبقى لحضارة بلاد ما بين النهرين، مروراً بصور وجبال لبنان، وإذ يقع القارئ أسيراً لأسلوب فولتير الذي لا يُضاهى في السرد والحوار، سيصل فجأة إلى ختام الرواية، التي كانت عرس همذان وأميرته، ليجده قد خرج عن النص، وراح يقرّع معاصرين له، قلّلوا من شأن حضارات الشرق، وأوسعوها هجاءً وأكاذيب وترَّهات، بل وذكرهم بالأسماء، وهو يحجّمهم واحداً واحداً، قائلاً: ياربّات الإلهام لا ترفعن عني حمايتكن واعملن على منع المتابعين الجسورين، من إيراد خرافاتهم لإفساد الحقائق التي علَّمتها للفانين، في هذه القصة الصادقة!