ملف «تشرين».. حرب الطاقة ومساراتها.. سباق عكس عقارب الساعة أعاد الجميع إلى غزة
تشرين – د. رحيم هادي الشمخي:
مباشرة بعد انطلاق الأحداث على جبهة غزة، عقب عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول الماضي، بدأت المقالات والدراسات تنهال علينا لتربط بين غزة وأحداثها ومستقبلها، وبين الممر الهندي، باعتباره يشكل الركيزة الأساسية لأحدث المخططات الأميركية في المنطقة والمرتبطة بالمطلق بإعادة تشكيل مسارات جديدة للطاقة والتجارة، ومنطقتنا من أهم مناطق إنتاج الطاقة «النفط والغاز» وتالياً من أهم مسارات النقل والتصدير، ولا شك بأن التركيز الأميركي تضاعف مع ما تم اكتشافه من حقول للغاز واحتياطياته الكبيرة في شرق المتوسط، أي قبالة كل من سورية ولبنان، والأراضي الفلسطينية «قبالة غزة تحديداً».. ولا ننسى هنا ونحن نتحدث عن المنطقة وثرواتها وعن الممر الهندي أن الهدف الأميركي أيضاً يتمثل في القضاء على كل المسارات والممرات الأخرى، ليس فقط الممر الصيني «الحزام والطريق»، بل الممر الروسي «شمال – جنوب» وحتى ممر طريق التنمية العراقي الذي تم الإعلان عنه في أيلول الماضي.
ولأن الكيان الإسرائيلي يشكل موقعاً مركزياً في الممر الهندي، كان لابد أن نصل، بكل الأحوال، إلى ما يجري حالياً في غزة، فكل التطورات والأحداث كان لا بد لها أن تسير حتمياً بهذا الاتجاه، وإذا كانت غزة اليوم هي نقطة التحول الأساسية في استراتيجية أميركا الجديدة في المنطقة، فإن هذه الاستراتيجية ستنسحب على كل المنطقة في المراحل المقبلة.. وما يساعدها في الأمر أن العديد من الدول هنا تلتقي مصالحها الاقتصادية والتجارية مع المصالح الأميركية، لا سيما في مسألة حسم ملفات المنطقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، إذا كانت أميركا تريد لمخططاتها أن تنجح وتمر.
أمر غير مسبوق أن يهرع رئيس أميركي إلى الكيان كما فعل بايدن ليُطلق الحرب بنفسه ولينشر آلة عسكرية كاملة على الأرض تدير الحرب.. هذا أمر له أهدافه وأبعاده الشاملة لكل المنطقة
وإذا كان «الممر الهندي» يتصدر حالياً، ارتباطاً بما يجري في غزة، فهذا لأنه مشروع ينطوي على نقلة استراتيجية خطرة جداً على المنطقة، فهو لا يقتصر على إعادة هندسة وتصميم سلاسل التوريد ومسارات الطاقة والتجارة على المستوى العالمي فقط، بل تسعى أميركا من خلاله إلى إعادة ترتيب القوى والتوازنات في المنطقة وصولاً إلى التأثير بالأهداف وحتى بالثوابت والأولويات السائدة.
وهذا ما يظهر بوضوح في محاولات وضع الكيان الإسرائيلي عنوة في قلب التفاعلات السياسية والاقتصادية وتحويله إلى طرف طبيعي مؤثر عبر إعادة دمجه في المنطقة أولاً وفي الإقليم ثانياً وفق قواعد ارتكاز اقتصادية تجارية سيؤمنها الممر الهندي بحيث يشكل ميناء حيفا مركزاً أساسياً لمشروع الممر إلى أوروبا، وهو الحلم الذي لطالما سعى إليه الكيان الإسرائيلي.
ولأن هناك دولاً عربية وازنة على مسار الممر الهندي فإن الهدف الأميركي – الإسرائيلي يبدو أبعد مما يجري في غزة، وإن كان ما يجري فيها هو البداية وهو الأخطر.. فعندما تلتقي مصالح عربية مع المصلحة الإسرائيلية فهذا يعني قطيعة لفريق من العرب مع القضية الفلسطينية واصطفاف مؤثر في إطار حلها بأي شكل وبما لا يؤثر في المستقبل الاقتصادي الذي يرسمه هذا الفريق ويعول عليه بصورة كبيرة.. وإذا ما حدث ذلك فهذا كفيل بأن يحول القضية الفلسطينية إلى مجرد خلاف داخلي إسرائيلي يستلزم عدم تدخل أي طرف فيه.
هذا ونحن لم نتحدث طبعاً عن إضعاف أدوار دول رئيسية في المنطقة مثل مصر وما سيؤدي إليه الممر الهندي من تراجع لأهمية قناة السويس، وكذلك العراق وطريق التنمية الذي أعلن عنه، وإيران وتركيا.. ومن نافل القول هنا الحديث عن سورية ولبنان باعتبارهما أكبر المتضررين.
لكن كل ما يُرسم وما يتم التخطيط له والاتفاق عليه لا يمكن له أن يمر بوجود فلسطين والمقاومة الفلسطينية ومحور إقليمي ممتد داعم لها، يقف في مواجهة المخططات الأميركية.. إذاً كيف ستتصرف أميركا، وما عملية الالتفاف والاستدارة التي ستنفذها في المرحلة المقبلة؟ وهل إن العسكرة ستكون جزءاً على قاعدة التحشيد العسكري الأميركي شرق المتوسط، أم إنه لا بد من انتظار كيف سينتهي مسار التطورات على جبهة غزة لنحكم ونعرف كيف ستتصرف أميركا؟
أميركا لا تتوقف عن محاولات إقحام الكيان في قلب التفاعلات السياسية والاقتصادية بهدف تحويله إلى طرف طبيعي مؤثر في المنطقة وفق قواعد ارتكاز اقتصادية جديدة سيؤمنها الممر الهندي
لنذكّر هنا كيف هرع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الكيان الإسرائيلي مباشرة بعد عملية «طوفان الأقصى»، وكيف سادت الدهشة حينها، باعتباره أمراً غير مسبوق «حتى عندما اندلعت حرب تشرين 1973 التي تتم مقارنة طوفان الأقصى بها».. فما فعله بايدن لا يدخل فقط في إطار إظهار الدعم والمساندة، والأساطيل التي لحقته لا تدخل فقط في إطار إظهار قوة الردع الأميركية أو لاستعادة هذه القوة.. «ما بعد طوفان الأقصى لن يكون كما قبله»، هذه الجملة التي انطلقت مباشرة بعد الطوفان ليست فقط تعبيراً عن مستقبل المنطقة ما بعد 7 تشرين الأول الماضي، بل كانت أيضاً تعبيراً عما ستفعله أميركا لمستقبل المنطقة وبما لا تتكرر معه بالمطلق عملية جديدة كـ«طوفان الأقصى»، إذ إن التحديات المصيرية التي تتعرض لها أميركا والكيان الإسرائيلي باتت في المرحلة الأكثر خطورة، ولا بد من تغيير كامل النهج باتجاه استراتيجية شاملة تقلب المنطقة وموازينها.
لكن هل هذا الهدف في متناول اليد؟ لنذكّر هنا أنه عقب حرب تشرين 1973 رفعت أميركا الهدف نفسه، على قاعدة أنه لن تكون هناك حرب تشرين أخرى. وبالإمكان القول إن أميركا بعد خمسين عاماً على هذه الحرب، هي من تعلمت الدرس وليس الكيان، لذلك حطّ بايدن في الكيان ليترأس بنفسه «كابينت الحرب» وليُعطي أمراً مباشراً باستمرار الحرب على غزة، من دون خطوط حمراء، وأياً يكن حجم المأساة الإنسانية، وليكون ممنوعاً على أي أحد في العالم أن يتدخل، وإلا فإنه يخاطر بالدخول في مواجهة مباشرة مع أميركا. وليس هذا بالأمر المستغرب، فسلامة الكيان هي هدف استراتيجي أميركي ثابت، ومن أجل ذلك سعت إلى إقحامه ضمن مشروع الممر الهندي، الذي يتجاهل كل الموانئ على المتوسط (بل عمل على ضربها وتدميرها لإخراجها من المعادلة) لمصلحة ميناء حيفا المحتل. ولأن الأمر تحول مع غزة إلى مسألة وجود أو لا وجود، حياة أو موت بالنسبة للولايات المتحدة، نراها دخلت بكامل ثقلها، وستبقى مهما كلّفها ذلك. فالكيان الإسرائيلي غير قادر وحده على ديمومة القتال خاصة مع الخسائر الاقتصادية التي سيتكبدها مع كل يوم قتال، لذلك فإن أميركا هي من يدير حرب غزة، ليس فقط بدبلوماسييها الذين يزورون الكيان ويجولون في المنطقة لتطويق دولها ومنعها من التدخل والتحرك، بل من خلال آلة عسكرية أميركية كاملة على الأرض.. ومن هنا تنطلق التصريحات الإسرائيلية من أن الحرب طويلة وقد تستمر سنة، فالمعروف عن اقتصاد الكيان، وهو أمر لم يتغير، أنه لا يستطيع تحمل تكاليف شهر قتال، فكيف بسنة؟ لولا أن أميركا هي من يدير الحرب وهي من يقاتل فيها.
ولأن أميركا مستعدة لأن تكمل الطريق حتى آخره في سبيل تحقيق مخططها الجديد في المنطقة، تنطلق المخاوف من أننا مقبلون على حرب كبرى انطلاقاً من جبهة غزة وتطوراتها، وانطلاقاً أيضاً من أنه بات من المُلح وضع الممر الهندي موضع التنفيذ قبل فوات الأوان وقبل خروج المنطقة كلياً عن قدرة أميركا على التحكم في اتجاهاتها.
كاتب وأكاديمي عراقي
اقرأ أيضاً: