تحولات صادمة في الأسواق.. سلوك غريب لشركات كبرى.. و “إرهاب البيجر” يخلط الأوراق
تشرين- حيدرة سلامي:
نشهد في يومنا الحالي، تنامي دور الشركات العالمية، قياساً بمحدودية تأثير قدرة الحكومات في سياسة صنع القرار، حيث تبدو منافسة شركات الأسلحة والتكنولوجيا، بارزة بشكل واضح للعيان، فقد بدأ تأثير الشركات الكبيرة وقدراتها الإستراتيجية من ناحية جمع المعلومات والأموال إضافة إلى تنظيم الأعمال والبيانات، يتفوق بأشواط كبيرة على الأداء الحكومي في جميع أنحاء العالم، حيث باتت مقاليد إدارة المرافق العامة من نظام المرور الأنظمة الأمنية والصرافية، بل حتى المطارات والموانئ، في يد الشركات الخاصة، التي صارت أمام الرأي العام المرحلة القادمة في حياتهم.
الانسحاب من تحت مظلة الدولار
لا بدّ أنّ الدولار اليوم يمر في نهاية عهده، فلم يمضِ أكثر من ثلاثة أشهر على الإعلان عن الانفكاك عن اتفاقية البترول- دولار بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية، حتى جاءت بعدها الصدمة في الأيام القليلة الماضية، حيث أصدرت شركات التواصل الاجتماعي الكبيرة، مثل غوغل وفيس بوك وغيرها، قراراً إدارياً ينص على إنهاء الدفع بالعملة الصعبة أو بعملة الدولار، للمشتركين على قنوات وصفحات التواصل الاجتماعي، كـ”اليوتيوبرز والتيكتوكرز” وغيرهم.
أصدرت شركات التواصل الاجتماعي الكبيرة قراراً إدارياً ينص على إنهاء الدفع بالعملة الصعبة أو بعملة الدولار للمشتركين على قنوات وصفحات التواصل الاجتماعي
وأعلنت في قرارها الإداري الصادر عن طريق مجالس إدارات الشركات بأنها سوف تبدأ بمنح هؤلاء الأفراد، عائداتهم من الأرباح عن طريق الدفع بعملتهم المحلية، أي عوضاً عن اعتماد الأرباح بما يساويها قياساً إلى نسبة العائدات بالدولار، سيتم إعادة تقييم هذه العائدات قياساً إلى السوق الوطنية، ما سيشكل فارقًا كبيراً في المدفوعات بين البلدان ممن يمتهنون أعمال السوشيال ميديا، وإن كان ذلك يدل على أي أمر، فله معنيان برأي محللي الأسواق المالية العالمية، فهو بالمقام الأول يهدف إلى تقليل المدفوعات على الشركات الكبرى، حيث باتت السوشيال ميديا، أو وسائل التواصل أحد مصادر الدخل الأساسية لنسبة كبيرة من سكان الأرض، وبات من الواجب تقليص النفقات, وتقليل أرباح هؤلاء الأفراد لأجل الاستئثار بالربح الأكبر، ولكن برأي محللي السوق الآخرين، فإن هناك دافعاً أخر خفياً لا يقل في الأهمية عن السبب التي صرّحت به شركات التواصل الاجتماعي، وهذا السبب هو أن هذه الشركات هي أيضاً تحاول أن تحذو نفسها كالمستثمرين في السوق، وأن تنوع محفظتها الاستثمارية من العملات الأجنبية المختلفة وهو السبب الفرعي لسياستها المالية الجديدة، فالسوق المستقرة لأسهم الشركات الصناعية، قد كانت مبنية على سوق الفوركس أو سوق العملات غير المستقر، ولاسيما الدولار، حيث كانت تقيم قيمة أسهم شركاتها بالدولار، الأمر الذي بات اليوم جديراً بإعادة التفكير، حيث بقيت أسعار الأسهم ثابتة رغم التضخم العالمي الذي يعصف بالعالم، وإن كان ذلك يعني أيَّ أمر فهو يعني أن الشركات الصناعية كانت تساهم بالخفاء، بامتصاص التضخم العالمي من خلال تحمل بعض الخسائر الناجمة عن تضخم الدولار لصالح الدول الأم، مثل شركتي Apple و Tesla وغيرهما من الشركات البارزة، فمن الصعب أن تبقى قيمة الأسهم ثابتة على مدى السنوات الماضية، بينما تتغير قيمة العملة المستخدمة في قياس أسعار الأسهم، وإن كان هناك بعض المؤشرات السوقية التي تظهر بعض التغيرات الطفيفة لتضخم الدولار من وقت إلى آخر، إلّا أنها لا تكاد تمت أمام الواقع بصلة، ولاسيما في أن المتغيرات التي تسري في العصر الراهن، من ظهور أقطاب منافسة جديدة و من تراجع التأييد العالمي لسياسة اتفاقيات جامايكا وسياسة بريتون وودز الاقتصادية التي تغرق العالم في الديون، بات أمراً غير قابل للنقاش.
الأسباب البعيدة
لا بدّ أن هناك أسباباً أخرى ودوافع لا تقل أهمية عن تقليل المدفوعات للناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، فهو قرار يرمي أيضاً إلى تنويع العملات الاستثمارية حيث أصبحت الشركات بحاجة إلى ادخار المزيد من العملات الأجنبية لأجل مواجهة التضخم العالمي، حيث لم يعد بالإمكان الالتزام بمصدر مالي واحد لتحصل على رأس مال مستقر، وعلى هذا المنوال، فقد قامت الشركات الأجنبية بزيادة مدخراتها من العملات الأجنبية المختلفة لتتمكن من تحصيل رصيد كافٍ لتستقر هذه الشركات في نفسها جزئياً عن تبعيتها المالية للوطن الأم، إضافة إلى إعادة توزيع إنفاق هذه الشركات بن البلدان المختلفة فتتمكن بذلك من تخصيص نشاطها في الأماكن المربحة، وتتخلص بذلك من المشاركين الذين لا يخدمون أهدافها، أو الذين لا ينقلون الشفافية المطلوبة من هذه الشركات، فتبتعد بذلك شريحة كبيرة من الناشطين عن واجهة الخبر، وبذلك تتجنب الدخول في منازعات قضائية أو سياسية، مع بعض الحكومات والأطراف المعنية.
القضاء الدولي
إنه أمر بات يتكرر في الآونة الأخيرة ويقلق الشركات الأجنبية، حيث تمت محاكمة شركة TikTok حينما أصدرت الحكومة الأميركية قانوناً يلزم الشركة ببيع أعمالها إلى مالك غير صيني خلال 12 شهراً وتجاهلت الشركة هذا القرار حيث قررت المواجهة القضائية.
كما حصل الشيء نفسه مع الرئيس التنفيذي لشركة “ميتا بلاتفورمز”، مارك زوكربيرغ، الذي قام بالإدلاء بشهادته أمام اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ الأميركي دفاعاً عن محتوى منصة ميتا، عوضاً عن قيامه بالامتثال لطلبات دعوى الحق العم المقامة ضد فيس بوك، ذلك من دون الدعاوى القائمة مع الموظفين المتأثرين بسياسة التسريح التعسفي الناجمة عن تطبيق العقوبات السياسية على حاملي الجنسيات الأجنبية في هذه الشركات الصناعية، حيث إن أكبر المتغيرات التي وقعت على الساحة الدولية من منافسة الشركات المتعددة الجنسية و حكومة الوطن الأم، عوضاً عن الرضوخ التام لطلباتها القضائية، إذ أمست العلاقات متوترة جداً بين أطراف الدعاوى القضائية، وبدأت الشركات والشخصيات المهمة بملاحقة الدعاوى القضائية من قبل أصحاب المجالس التنفيذية للشركات كدليل على توتر العلاقات عن السابق.
إذاً وبناءً عليه يمكننا أن نستنتج أن الشركات الصناعية الكبرى تعاني من الضغط المستمر الواقع عليها من الحكومات، حيث وضمن قانون البلد الأم فإنه يمكن أن يتم وبشكل آني تجميد كل الحسابات المصرفية للشركات المعنية، في حال خالفت هذه الدول بعض القرارات الدولية، كخرق سياسة العقوبات الاقتصادية مع بلد ما، وذلك إضافة إلى مصادرة معداتها وتأميمها لصالح الحكومة من دون دفع أي تعويض لهذه الشركات بناءً على السياسات الاقتصادية الحازمة لهذه الدول، حيث يتم حجز الأموال استناداً على الحجج القانونية الشهيرة كالاشتراك في تمويل الإرهاب، أو التجسس أو تسريب المعلومات أو غيره، ولهذه الأسباب فإن شركات التكنولوجيا اليوم بدأت تضيق من هذا الضغط المستمر، وبدأت تبحث عن بدائل في العمل الرقمية والاستثمارات المختلفة لإحساسها بعدم جدوى خدمة المساعي السياسية الوطنية ضمن الوضع الراهن.
وفي ظل هذه السياسات الحكومية، فقد بدأت الشركات العالمية تصعد في تيار منافس السياسات الاقتصادية أحادية الجانب.
التسريح التعسفي
منذ مطلع العام الحالي قامت أكثر من 157 شركة تكنولوجيا بخفض عدد موظفيها، بإجمالي يقارب 40 ألف موظف، وفقاً لموقع Layoffs.fyi الذي يتتبع تسريح العمال في مجال التكنولوجيا، وتستند الشركات العالمية في ذلك إلى استخدام الذكاء الصناعي وعدم حاجتها، إلى هؤلاء الموظفين بعد ظهور تقنية الذكاء الصنعي، إلّا أن الواقع يفرض معادلة أخرى حيث إن الشركات التي قامت بهذه الموجة من التسريحات التعسفية، كانت الخاسر الأكبر هذه السنة كما تشير الاحصاءات الواضحة.
حيث خسرت هذه الشركات الكثير من اليد العاملة الرخيصة والتي كانت تأتي إليها غالباً من الدول ذي الجنسيات المعنية بالعقوبات، كالجنسية الصينية, حيث تعد الكوادر القادمة من هذه الدول هي من الكوادر الأعلى في التحصيل العلمي والتنظيم، والأقل في طلب الأجور، فتحولت هذه اليد العاملة إلى بلدها، الأمر الذي كانت عليه عوائد سلبية على أداء هذه الشركات، وعلى تراجع ترتيبها عالمياً، فقد ولأول مرة في تاريخها، تراجعت شركة apple من لقب الشركة الأكثر مبيعاً بالعالم، وسلمت اللقب لشركة Nvedia في الشهر الفائت من العام الحالي، وإن كان هذا الأمر يدل على أي أمر فهو علامة على تأثر أداء الشركات الأجنبية سلباً بالقرار السياسية لحكوماتها، حيث كان تراجع شركة آبل أمام منافسها هذا العام يعود إلى تكاليف العمل العالية إضافة إلى قوة المنافسة، حيث عاد آلاف المهندسين المهرة إلى بلدانهم، الأمر الذي عزز العمل في كثير من الشركات المنافسة ولاسيما Huawei و Xiaomi، فقد استفادت هذه الشركات من عودة اليد العاملة الماهرة الخبيرة إلى بلادها وتوجيهها ضد شركاتها السابقة، ما كان السبب في ضعف المبيعات، بل حتى التخطي التقني في بعض الأجهزة التقنية.
منذ مطلع العام الحالي قامت أكثر من 157 شركة تكنولوجيا بخفض عدد موظفيها بإجمالي يقارب 40 ألف موظف
الإفراط باستخدام التقنية الصناعية الحديثة
إنّ مخصصات البحث العلمي للشركات العاملة ضمن البورصة الغربية اليوم، تتراجع وبشكل واضح للعيان أمام الإنفاق العسكري الضخم، فبينما ترتاح الشركات المنافسة في بورصة روسيا والصين من أعباء تقديم الخدمات والبيانات والخدمات للجهات العسكرية، تتعرض الشركات التقنية العاملة في مجال الاتصالات وغيرها، إلى خسائر مستمرة سواء من عدد الزبائن الذين باتوا يخشون اختراق معلوماتهم الشخصية، أو من الزبائن الآخرين الذين يعيشون في موطن الشركات المنافسة، والذين باتوا قلقين على أنفسهم من الاستهلاك غير المدروس للأجهزة الإلكترونية.
فعلى سبيل المثال، قد أحدثت ضربة أجهزة البيجر الإرهابية من قبل “إسرائيل” في لبنان، صدمة لسوق الأجهزة الإلكترونية في العالم، هذا عدا عن أنّ جميع الشركات التي صممت هذا الجهاز، قد تعرضت إلى أزمة حادة في تسويق أجهزتها، وذلك أنّ هذه الشركات اليوم قد دخلت الأعمال الحربية بشكل مباشر، وأظهرت للعالم بالفعل صحة المخاوف المتعلقة باختراق الأجهزة والخصوصية الشخصية وسرقة المعلومات، حيث كانت هذه الضربة بمثابة اعتراف رسمي بكل المزاعم التي كانت تنفيها شركات الاتصالات والتكنولوجيا عن انتهاكها حرية الأفراد لصالح جهات معينة، ومن دون ذلك فقد ترتب على الهجوم أن تتوقف تجارة بطاريات الليثيوم في العالم بشكل مؤقت، فلقد جعلت هذه الضربة من سوق الأجهزة الإلكترونية موضع شك حقيقي بأنه أداة تجسس، هذا عدا عن كونه قد بدأ سباقاً تكنولوجياً في مجال حماية البيانات يكلف الملايين يومياً.
فالمتضرر الأكبر من العمليات العسكرية الناشئة عن استغلال مجال التكنولوجيا، كانت هذه الشركات العالمية نفسها، التي لم تعد ترى مصلحة لها بتحمل المزيد من الخسائر، وهو الأمر الذي لا بدّ أنه سيكون موضوعاً فارقاً في الأعوام القليلة القادمة.
ولذلك فإن هذه الشركات العملاقة التي تحمل ثقافة العمل المشترك والتبادل الثقافي والمعرفي، قد بدأت تعرب عن استيائها بشكل غير صريح من السياسات الاقتصادية التي تكرس مبدأ الأفضلية التجارية لبعض الجنسيات دون الأخرى، حيث إن الشركات التجارية بالنهاية هي مؤسسات تسعى إلى الربح ولا تهمها التوجهات السياسية، ولاسيما أنّ هذه الشركات العالمية لديها من المال والتنظيم والمعلومات وذلك من دون ذكر التقنية الحديثة التي تؤهلها لمنافسة المؤسسات الحكومية والدولية، فليس هناك من خسائر ملحوظة في أن تتحدى هذه الشركات الشروط والأحكام الدولية التي تقييد لها حقها في التجارة مع مختلف المجتمعات البشرية، ولذلك فإن قدرة المؤسسات الحكومية على ضبط هذه الشركات العالمية، بدأت تصبح موضع شك، وإنه أمر وارد جداً أن نعيش في عصر نفوذ الشركات التجارية عن قريب.