ملف «تشرين».. على توقيت الساعة الإقليمية الدولية الأكثر حساسية وإلحاحاً.. كيف أغلقت «طوفان غزة» الممر الهندي باتجاه شرق أوسط أميركي جديد؟

تشرين – مها سلطان:
من غزة إلى الصين.. أميركا تريد ضرب كل العصافير بحجر واحد، وكان مقدراً لها النجاح بصورة كبيرة لولا أن «رمال الشرق» كانت تخبئ لها بين كثبانها «طوفاناً» ابتلع كل ما سبق وأنجزته على مسار «ضرب العصافير» وصولاً إلى ما يسمى الممر الهندي – الذي كان بالترتيب الأميركي- المحطة النهائية لشرق أوسط استراتيجي «عالمي» تجاري واقتصادي، يعيد تشكيل المنطقة والعالم، وفق قواعد مسارات الطاقة والتجارة، على مقاس قرن أميركي جديد.
في صباح يوم الـ7 من تشرين الأول الماضي، عندما انطلقت عملية «طوفان الأقصى» لم يكن قد مضى على إطلاق ما يسمى اصطلاحاً الممر الهندي «واختصاراً IMEC آيماك» سوى شهر واحد «في اجتماع مجموعة العشرين في العاصمة الهندية نيودلهي في 9 أيلول الماضي»، وسواء كانت هذه العملية انطلقت بهدف يتعلق فقط بقطاع غزة والرد على استفزازات الكيان الإسرائيلي وعدوانه المستمر على الفلسطينيين، أو بهدف يتجاوز حدود القطاع إقليمياً لتكون العملية جزءاً من مواجهة المخططات الأميركية في المنطقة، وأياً يكن ما قيل ويقال في هذه العملية إلا أن توقيتها الذي تم ربطه على الساعة الإقليمية- الدولية/الأميركية، هو ما جعلها فائقة الأهمية، وما جعل أنظار العالم تتركز على غزة، هذه البقعة الصغيرة بجغرافيتها، والهائلة في أهميتها الإقليمية الجيو- اقتصادية.

تشكل غزة بموقعها، الجغرافيا الأهم التي تحدد مسار اللعبة الاقتصادية الجديدة في العالم.. وهي أول اختبار عملي للممر الهندي الذي يمتد على بعد 25 كم منها

وسواء كان صحيحاً أم لا، ما يُقال حول أن أميركا هي من غضت النظر عن المعلومات التي كانت تقول بتحضير فصائل المقاومة الفلسطينية لعملية «طوفان الأقصى»، وتالياً هي من سعت إلى جر غزة إلى حرب مفتوحة، بهدف الانتهاء كلياً من ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وإغلاقه على خيار دولة واحدة هي «إسرائيل» مقابل تهجير الفلسطينيين إلى سيناء مصر أو الأردن أو توزيعهم على عدة دول.
وسواء كان صحيحاً أم لا، أن عملية «طوفان الأقصى» مثلت مفاجأة كبرى للولايات المتحدة وكيانها الإسرائيلي، وأنها تسعى حالياً إلى الاستثمار في جبهة غزة المفتوحة للوصول إلى الهدف نفسه، أي تحقيق مشروع الممر الهندي على أنقاض قطاع غزة والقضية الفلسطينية.
وسواء كان ما يُقال صحيحاً أم لا، فإن عملية «طوفان الأقصى» جمدت وستجمد لفترة طويلة مشروح الممر الهندي الذي تعلق عليه الولايات المتحدة كل آمالها لإعادة ترتيب قواعد اللعبة الشرق أوسطية، واستعادة استراتيجيات الردع والنفوذ في منطقة، جميع العالم بقواه الكبرى بات يوجد فيه.
وسواء انتهت حرب غزة في الأسابيع أو الأشهر المقبلة فإن المستقبل لم يعد مؤكداً، بالنسبة للولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، اللذين باتا يدركان تماماً أن الممر الهندي، وكل مشروع أميركي مماثل له، مصيره الفشل.. هذا ما أثبتته عملية طوفان الأقصى، وما تثبته بالعموم جغرافيا منطقة لا تكاد تهداً أو تستقر، حتى تعود للاشتعال، وهذا كله بفضل أميركا وسياساتها القائمة على تجديد الصراعات والحروب، لتبقى هي المهيمن والمستفيد الوحيد.
*** ***

أياً يكن ما قيل ويقال في «طوفان الأقصى» فإن توقيتها تم ربطه على الساعة الإقليمية الدولية/الأميركية ما جعلها فائقة الأهمية وجعل أنظار العالم تتركز على غزة

عندما انطلقت عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول الماضي، ربما لم تكن لتتبادر إلى أذهان كثيرين منا امتدادات هذه العملية وأبعادها، ولم نكن لنعرف أن ما وراء جبهة غزة يقبع مخطط أميركي كبير لقلب وجه المنطقة.. وهكذا حتى بدأت التصريحات الغربية تفضح المستور، بل إن الهند نفسها صرحت غير مرة عن مخاوفها من تداعيات طوفان الأقصى على مسار الممر الهندي، وهو الذي لم يدخل حيز التنفيذ العملي. خلال قمة العشرين عندما أعلن عن هذه الممر تم الإعلان أيضاً عن مدة شهرين للانطلاق، لكن بعد «طوفان الأقصى»، بات كل شيء قيد النتائج التي سينجلي عنها غبار حرب غزة.
ولكن كيف حدث أن تحولت غزة إلى مركز للكون بعد «طوفان الأقصى»؟
قبل الإجابة لنعرض ما هو الممر الهندي؟

هو في الأصل مشروع جيو- اقتصادي أميركي لمواجهة حضور الصين المتصاعد في الشرق الأوسط وتحديداً مبادرة «الحزام والطريق» التي »تضم 150 دولة و30 منظمة دولية، بتمويل يقارب تريليون دولار لإنجاز ما يزيد على 3000 مشروع».
ومع تصاعد حدة المنافسة بين الصين والهند، سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً «رغم كونهما عضوين في تحالف بريكس».. التقت مصالح الهند والولايات المتحدة على احتواء الصين واستقرت على إنشاء ممر عالمي تجاري اقتصادي يربط الهند والشرق الأوسط وأوروبا، لكن بالمقابل لا يعني هذا أن الأهداف الأميركية هي الأهداف الهندية نفسها، فإذا كانت الهند تسعى إلى احتواء منافستها الصين، والاستثمار في العداء الأميركي لها للاستحواذ على نفوذ دولي أكبر، فإن أهداف أميركا تتجاوز الهند والصين لبناء قرن أميركي جديد والقضاء كلياً على العالم المتعدد الأقطاب الصاعد بقوة.
*** ***
بالنسبة لأميركا لم يكن الممر الهندي وليد التقاء المصالح الأميركية- الهندية فقط، فالدائرة أوسع من ذلك بكثير، الممر هو نتيجة جهود متواصلة بدأت فعلياً منذ أكثر من عامين قبل أن يُترجم إعلاناً رسمياً في قمة العشرين في أيلول الماضي.. وعندما تم الإعلان عنه كانت الاتفاقات والتفاهمات حوله منتهية، وكانت أرضية الانطلاق مُنجزة باتجاه التنفيذ.. ثم جاءت عملية طوفان الأقصى، لتتحول غزة إلى بقعة تركيز عالمي، على قاعدة أن الكيان الإسرائيلي يشكل في الممر الهندي نقطة الربط المركزية في المنطقة باتجاه أوروبا، وغير خافٍ الهدف الأميركي هنا لناحية تكريس الكيان قطباً في المنطقة، على قاعدة دمجه في محيطة أولاً، والإقليم ثانياً، عبر تفاهمات واتفاقات أساسها ما تسميه أميركا «السلام الاقتصادي».

– «سؤال ما بعد غزة؟» انطلق أساساً من المخطط الأميركي الجديد الذي يقوم على استعادة المنطقة إلى دائرة النفوذ الأميركية وفق قواعد جديدة عسكرية واقتصادية أساسها الممر الهندي

لذلك كان الكيان الإسرائيلي يعول بصورة مطلقة على الممر الهندي، وقد وصفه متزعم الكيان بنيامين نتنياهو بأنه «أكبر مشروع تعاون من شأنه أن يغير وجه الشرق الأوسط وإسرائيل وأوروبا وسيؤثر في العالم أجمع».
لكن لتنفيذ مشروع بهذه الضخامة لا بد من تحقيق شرط رئيسي، وهو الاستقرار السياسي والأمني، وهذا ما كانت تسعى إليه واشنطن منذ أطلقت «صفقة القرن» في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، والتي استمرت بصورة غير معلنة في عهد الرئيس الحالي جو بايدن.. وظنت واشنطن أنها قطعت شوطاً كبيراً في مسألة الاستقرار السياسي والأمني في المنطقة، أو لنقل في الدول التي تدخل ضمن الممر الهندي، ودائماً وفق قاعدة رئيسية تقوم على مسارين: الأول أمن واستقرار الكيان الإسرائيلي، والثاني أن يشكل الكيان نقطة ارتكاز في الممر الهندي.
.. وهكذا حتى يوم السابع من تشرين الأول الماضي عندما فجرت عملية «طوفان الأقصى» أساسات هذه القاعدة، ودفعت أميركا والكيان الإسرائيلي معاً إلى جبهة مفتوحة، وبما جمد كل المخططات والمشاريع، وعلى رأسها الممر الهندي، وبات جميع المعنيين بانتظار جلاء غبار هذه الجبهة، لكن الأخطر هو أن هؤلاء وجدوا أنفسهم – بشكل أو آخر – مضطرين إلى خوض حرب غزة مع الكيان الإسرائيلي، أو على الأقل الوقوف على الحياد تجاه الهدف الذي أعلنه الكيان، ومن خلفه أميركا، بأن العدوان على غزة لن يتوقف حتى تحقيق هدف الحسم الكامل، وهو القضاء على المقاومة، وحل مسألة قطاع غزة بصورة نهائية، أي إزالته كلياً من مسار الممر الهندي «وصولاً إلى شرق أوسط جديد من دون غزة ومن دون فلسطين» وهذا لا يكون إلا بتهجير أهله وإعادته إلى حكم المحتل الإسرائيلي.
*** ***
لنوسع الرؤية.. لماذا تمتلك غزة كل هذه الأهمية بالنسبة للممر الهندي؟
أولاً، تشكل غزة بموقعها، الجغرافيا الأهم التي تحدد قواعد اللعبة الاقتصادية الجديدة في العالم وذلك لعدة أسباب أهمها، مساحتها البحرية التي تعد الأكبر بالنسبة للكيان الإسرائيلي وبالنسبة لموقع حقول الغاز المكتشفة في البحر قبالتها «الممر الهندي سيمتد عبر مضيق ضيق بين قطاع غزة والضفة الغربية على بعد 25 كم فقط من القطاع».. إلى جانب أن موقعها ينعكس بشكل مباشر على أمن خليج «العقبة- إيلات» .. هذا عدا حدودها مع مصر حيث تلعب دوراً محورياً في حركة التجارة الدولية عبر قناة السويس، ولا ننسى هنا ارتباطات غزة الإقليمية، خصوصاً مع محور المقاومة.
ثانياً، تعد غزة أول اختبار عملي للممر الهندي، وتالياً للاستراتيجية الأميركية الجديدة في المنطقة والعالم، المرتبطة بصورة كبيرة بالممر الهندي، ورغم أن أميركا ليست ضمن محطاته جغرافياً إلا أنها أكبر المستفيدين منه.

ثالثاً، المستفيد الأكبر الثاني هو الكيان الإسرائيلي، ففي حقيقة الأمر هذا الممر إسرائيلي، حيث يعتمد استراتيجية أرساها الكيان في أواخر الخمسينيات وتقوم على تهميش الدول العربية والإسلامية القادرة على لعب دور إقليمي مستقل وإعطاء الكيان الدور المحوري في المنطقة.. وبالتنفيذ سيجعل الممر الهندي من الكيان حلقة الربط بين الهند من جهة، والمنطقة من جهة ثانية، وأوروبا من جهة ثالثة، وعند الإعلان عن الممر الهندي في قمة العشرين وصفه نتنياهو بأنه الممر الذي سيغير وجه الشرق الأوسط وسيكون من أهم التحولات بالنسبة للكيان باعتباره محور هذا المشروع العالمي.
«هناك من يرى أن الممر الهندي يؤدي المهمة نفسها لقناة بن غوريون التي تربط المنطقة بأوروبا، وبوجود هذا الممر لا حاجة للقناة، فالممر الهندي أوجد للكيان دوراً اقتصادياً محورياً يتخطى بأشواط امتلاكه قناة مباشرة إلى البحر المتوسط، وبفاعلية أعلى وتكلفة أقل».

المطالبة الأميركية الملحة بعدم توسيع الحرب ليست سوى مناورة مرحلية تنتهي بعد حسم إعادة احتلال غزة ليبدأ بعدها دور الأساطيل الأميركية في تنفيذ (خط حيفا – الهند)

رابعاً، لإتمام هذا الممر تجب إزالة كل العوائق والأخطار من طريقه، ومنها قطاع غزة والمقاومة الفلسطينية، لذلك فإن أميركا والكيان لن يوقفا الحرب حتى تحقيق هدف الخلاص من غزة عبر تدميرها وإفراغها من سكانها، ثم إعادتها تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي هذا من جهة.. ومن جهة ثانية استعادة المنطقة إلى النفوذ الأميركي وفق قواعد جديدة عسكرية واقتصادية وتطويق التمدد الشرقي، لذلك نرى كل هذا التحشيد الأميركي الثقيل في شرق المتوسط.. ومن هنا انطلق مبكراً السؤال عن «ما بعد غزة؟» ولايزال قائماً، علماً أنه في المواجهات السابقة لم يخرج هذا السؤال ولا في أي منها، بل كانت المواجهات تستمر لعدة أيام ثم تتوقف تحت ضغط الوساطات والتدخلات. أما المطالبة الأميركية الملحة بعدم توسيع الحرب فهي فعلياً ليست سوى مناورة مرحلية تنتهي بعد حسم إعادة احتلال غزة ليبدأ بعدها دور الأساطيل الأميركية في تنفيذ الممر الهندي (خط حيفا – الهند). وفي إطار ذلك تأتي تصريحات متزعمي الكيان بأنه لن يقبلوا إلا بالسيطرة الكاملة على غزة كنتيجة حاسمة لهذه الحرب.
خامساً، لم يكن الإعلان عن مشروع الممر الهندي في أيلول الماضي وليد مشاورات ومحادثات ثم توافقات واتفاقات، بل هو وليد عمل أميركي إسرائيلي مستمر منذ سنوات، بدأ بتمهيد أرضية المنطقة منذ بداية هذه الألفية، وذلك عبر إخراج الدول العربية الفاعلة واحدة تلو الأخرى من دائرة الفعل والتأثير، بدءاً بالعراق 2003 وصولاً إلى سورية 2011، مروراً بكل الدول التي دمّرها «الربيع العربي» وما زالت ذيوله تفعل الفعل نفسه.. ثم استبعاد إيران وتركيا من المشروع.. وعالمياً عبر حرب أوكرانيا وتفجير أنابيب غاز «السيل الشمالي» الروسي وتكبيل روسيا بالحصار والعقوبات.
*** ***
في هذا التوقيت الملح لأميركا، وفيما بدأت مؤخراً تسير بخطوات سريعة في تحقيق المشروع الهندي وجزئه المتعلق بـ«حيفا- الهند»، وقعت عملية «طوفان الأقصى» لتضع حداً فاصلاً، وليصبح الجميع في صورة ما يتم التخطيط له أميركياً وإسرائيلياً.
محصلة ما سبق هو أن أميركا أدركت أن لا شيء ثابتاً في المنطقة من دون حل القضية الفلسطينية بصورة نهائية، لكنها لا تريد حلها على حساب الكيان الإسرائيلي ونفوذها في المنطقة، وعليه فإن «حل الدولتين» مستبعد، ولن يكون هناك سوى شريك واحد هو الكيان، لذلك لا بد من إزالة غزة والقضية الفلسطينية من الطريق، وهذا ما يحدث، أو لنقل هذا ما تسعى إليه الولايات المتحدة.. سعيٌ لا يبدو أنه سيكون ميسراً في ظل أن الزمن دار بالمنطقة دورة كاملة ليضعها، في أهم دولها، خارج السيطرة أو استعادة السيطرة كما تريد الولايات المتحدة.

اقرأ أيضاً:

ملف «تشرين».. «الممر الهندي» قبل وبعد «حرب غزة».. المنطقة والعالم أمام حروب جديدة على الطاقة والجغرافيا الواعدة

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار