القمر: كوكب الحب أم لجين الآلهة؟

تشرين- حنان علي:

في جوف العتمة يبزغ نديماً للمتأملين، عراباً لأسرار الحبّ ورمزاً آسراً للإلهام.. ليس رحالة بين السماوات، ولا قنديلاً يبعثر التيه، بل رمز ثقافي وأدبي عميق، ومفتاح لأسرار التجربة الإنسانية، بجمالها وغموضها ورغباتها العميقة.. القمرُ الشاهد الصامت على تجاربنا وآمالنا وآلامنا؛ كيف استطاع أن يرتبط بالهوية الثقافية والتعبير الإنساني؟ متى أمسى جزءًا لا يتجزأ من حكاياتنا وما التأثير السحري لضيائه عبر الزمن؟

قمر الشعر والأدب

لطالما اكتسب القمر أهمية خاصة في الشعر العربي، حيث عزز ضياؤه القصيدة، فيما أتاح أفوله فرصة للتطرق إلى معانٍ أبقته حاضراً في القصائد سواء أكانت الغزل والرثاء أو القصيدة الوطنية. ونستهل مع غزل المتنبي:
واستَقْبَلَتْ قَمَرَ السّماءِ بوَجْهِها
فأرَتْنيَ القَمَرَينِ في وقْتٍ مَعًا

أبدع الشاعر بهاء الدين زهير باستخدام رمزية الجمال المقمر والذي ترنم بعبارته غناء؛ المطرب الكبير صباح فخري:
حبيبي على الدُّنيا إذا غبتَ وحشةٌ
فيا قَمري قلْ لي مَتى أنتَ طالعُ
لقد فنيتْ روحي عَليكَ صَبابةً
فَما أنتَ يا روحي العزيزَة صانِعُ

وما زالت الليالي القمراء أنسب الليالي للسفر أو السهر أو الحب ، ذلك للتعبير عن جمال المعشوق ووجهه الحسن. يقول الشاعر أبو تمام:
قَمَرٌ تَبسَّمَ عَنْ جُمَانٍ نابتِ
فَظَلِلْتُ أَرمُقُه بِعَينِ البَاهِتِ
ما زال يقصر كلُّ حُسنٍ دونه
حتَّى تفاوَتَ عَن صِفاتِ النَّاعِتِ

في الشعر العالمي حضر القمر تجسيدًا للجمال والأحاسيس البشرية، ومرآة لمشاعر الإنسان وأفكاره. كتبت الشاعرة الأمريكية أيمي لويل (1874 – 1925)
أيها الهلال المهاجر،
أصغي لندائي
اقترب قليلاً أيها القمر،
ادنُ لخاطر طفلة صغيرة.
ونرى الشاعر الإيطالي ماريو ريلي يتفنن بوصف وجعه منهالاً مع تصدع القمر:
تساقطت شظايا القمر في بركة وحل
تحوم عناقيد النجوم
كمراوح دوارة بلا جدوى
فوق كسرات الأحلام
قلبي بات جريحاً
أسناني مترعة بالتراب..
وما لبثت العلاقة ما بين الليل والقمر من العلاقات المعقدة التي ألهمت العديد من الكتاب والفلاسفة فنرى وليام شكسبير وقد أشار إلى القمر كرمز للأحلام والتغيرات العاطفية: “لا تقسم بالقمر، فالقمر في كل ليلة يتغير، وبالتالي فإن حبك أيضاً يتغير”.. فيما كان للروائي الفرنسي إميل زولا رأي آخر: “حتى وإن بدا القمر وكأنه يتراجع وسط الليل، فإنه في الواقع مازال القمر، ولا شيء يؤثر فيه أبدًا”.. أما أينشتاين فكان يفضل الاعتقاد بأن: “القمر ينير الظلام في كل ليلة، حتى لو لم أكن أنظر إليه”.

القمر والفن
عبر العصور، حرص كثير من الفنانين على استحضار القمر في أعمالهم، وفي ألمانيا عثر على أقدم تصوير للقمر كقرص برونزي يعود لـ3600 عام عرف بقرص “نيبرا سكاي”.. كما ظهر القمر في اللوحات الدينية وأعمال عصر النهضة.. أما أبرز مكانة للقمر في الأعمال الحديثة، فكانت لوحة روفينو تامايو التي جسدت خسوف القمر، ولوحة كاسبار ديفيد فريدريش التي تظهر تأمل شخصين للقمر. أما في القرن الـ(18) فقد رسم جون راسل رسومات دقيقة لسطح القمر بعدما أمضى أكثر من (20 ) عاما في مراقبة القمر وتوثيقه، بينما تُعتبر لوحة “ليلة النجوم” لفان غوخ واحدة من أبرز الأعمال الفنية في التاريخ الحديث.

الروحانية والأساطير
ارتبط القمر بكثير من الأساطير المختلفة، ولا تزال بعض الثقافات تحتفل بليلة البدر كرمز للحب والنمو حيث يُعتقد أن الضوء القمري يجذب الأرواح الطيبة وينشر السلام. أما اكتماله فدليل على الأمل والإلهام.
ولطالما اعتبر القمر رمزاً مقدساً وقد تمّ تكريمه في العديد من الأديان والمعتقدات. وتكشف نصوص المسند عن عبادة القبائل العربية البائدة، مثل عاد وثمود وطسم وجديس وغيرها، للإلهة القمرية. فالإله «ود» أو «ود شهر» معناه «ود القمر».
بدورهم ساهم المصريون القدماء في تقدير القمر ورغم أنهم لم يعدوه إلها في حد ذاته، لكنه مثل تجليات عدد من آلهتهم، وتجمع الكثير من الأساطير المصرية القديمة بين البدر والهلال والآلهة، مثل تحوت أو “توت” وأوزيرس وحورس، المتجلي رمزياً على شكل قرص أو عين.
تظهر الثقافة اليونانية القديمة كيف تم ربط القمر بأنوثة القوة والطبيعة فكانت سيلين إلهة القمر الجبارة، وتُصور غالبًا بركوب عربة تجرها الخيول البيضاء في سماء الليل. أما أرتيميس، فهي مرتبطة بالصيد والطبيعة، وقد كانت تُعتبر رمزًا للعذرية والحماية.

وفي الأساطير الصينية، يُعتبر القمر رمزًا للجمال والوحدة. ومن أكثر الأساطير شهرة هي “أسطورة لوتس القمر”، التي تحكي عن “تشانغ إيه” التي سكنت القمر بعد أن شربت إكسير الخلود. ويتم الاحتفال بعيد منتصف الخريف (عيد القمر) تكريمًا، حيث يقدم كعك القمر كرمز لوحدة الأسرة.
وفي الثقافة الهندية أيضاً، يُعتبر القمر إلهًا يُدعى “تشاندرا” وهو مرتبط بالنوم والهدوء. وقد تمَّ ذكره في العديد من النصوص الأدبية كرمز للعشق. كما تحمل بعض الأساطير وصفات مرتبطة بالزراعة والمياه، ما يبرز تأثيره على الحياة اليومية للناس.
كما تتنوع الأساطير المرتبطة بالقمر بين القبائل الأفريقية. إذ نراه في بعض الثقافات، رمزًا للحكمة أو تعزيز الاتصالات مع العالم الروحي. وتُروى حكايات عن تجمعات سرية تحت ضوء القمر لأغراض احتفالية أو طقوسية، حيث يُعتقد أن الضوء يساهم في حماية المجتمع من القوى الشريرة. ويُعتبر بزوغه مرتبطاً بنظم الزراعة والمواسم، حيث يعتمد عليه البعض لتوقيت زراعة المحاصيل. كذلك تنظر قبائل الأمريكتين للقمر كأخت للشمس ورمز للأمومة والإخصاب.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
اتحاد العمال  يكرم ١٣٨ متفوقاً من أبناء الطبقة العاملة  بمناسبة اليوم العالمي الإنساني.. يوم مفتوح لـ(٧٠٠) طفل من دور الأيتام في دمشق اعتمد التصنيف الوطني للأنشطة الاقتصادية.. مجلس الوزراء يؤكد على إعادة ترتيب أولويات المشاريع حسب أهميتها في الموازنة الاستثمارية دخول «لعنة العقد الثامن» زمنها الفعلي.. آن الأوان أن يعود اليهود للشتات سوريّات يؤسسن "بزنس خفيف ونظيف".. مهارات الطبخ للاستثمار بعيداً عن التنظير والتسويف «التين السوري» حكاية الشجرة المباركة التي ارتبطت بطول العمر.. «ناول يارزق ناول».. الرئاسيات الأميركية مُثقلة الحمل.. حرب غزة تطوّق الديمقراطيين.. التخلي عن هاريس في الأولويات وسوء حظها يصبّ بخدمة ترامب أكثر من 35 ألف خدمة قدمها مركز خدمة المواطن في السويداء.. ومعوقات تعترض العمل القمر: كوكب الحب أم لجين الآلهة؟ كيف نهيىء أطفالنا نفسياً لاستقبال العام الدراسي؟.. مرشدة اجتماعية: التشجيع والحديث بشكل إيجابي عن المدرسة