في كتابة الرواية إمكاناتٌ لا تُحصى تسمح بالتحلُّل من “الواقع” وشروطه! يمضي الروائي من دون جوازات سفر، يمضي من دون التوقف في الأزمنة المنتظَمة، يمضي من دون منطق التواتر بين الفعل وأسبابه! إنه في مملكة يستخدم ما شاء من المواد لبنائها، بصرف النظر عن العصور التي افترقت عن بعضها بالممكن وغير الممكن، وفي تصنيف “الرواية العظيمة”، لا رواية تشبه غيرها ولا روائيَّ يُقارَن بغيره. كلُّ واحدةٍ نجمةٌ فريدة في مجرّة، كلُّ واحد كوكبٌ مستقلٌّ في مداره، لكن ماذا عن روايةٍ اختارت مدخلاً لها حدثاً مغلوطاً، وواصلت البناء عليه؟
لا أحد سينبه الكاتب إلى أن المدخل فيه خطأ بنيويّ، لا ينضوي تحت الخيال المسموح فيه بالتحليق والخلْق، بل في مقاربةٍ متسرعة لسلوك بشري واقعيّ، جعل الكاتبَ يدينه مسبقاً ويبالغ في وصفه وتشريحه، من دون أن يلقي بالاً إلى القارئ الذي يحاكم ويميز، وهو سيمضي في الكتابة من دون أن يتلقى جرسَ تنبيهٍ من أحد لأن الكتابة فعل فرديٌّ يتمّ في عزلة تامة عن الآخرين، ولا يأتي النقد والمساءلة إلّا بعد اكتمال البناء، تماماً كما يفعل الساكن حين يأخذ مفتاح البيت وهو جاهز!
الرواية التي قرأتُ كانت مطبوعة، وفي بدايتها مغالطة لا يمكن أن تحصل في الواقع، رغم حدوث ما هو أسوأ منها، وكانت الأحداث تنمو وتتشعب، والشخصيات تُقبل وينمو بينها الصراع كما يجدر بالفن الروائي، لكن ذلك الخطأ الذي حصل في البداية، ما يلبث أن يذرّ بقرنه ويطرح سؤالاً: كيف تطورت الأحداث بهذا الاتساق؟ وكيف واصلت الشخصيات مسارها من دون أن تؤثر عليها هشاشة السبب الذي ساق الأقدار القاسية إليها؟
قارئ يقول: إنّ الرواية استطاعت أن تخفي نقطة ضعفها، والكاتب كان ماهراً في ملء الصدوع والمضي في جذب الاهتمام وإشباع الفضول، لكن هذا القارئ فاتته قصة مليئة بالعبر، كانت تُحكى لنا لتعلمنا الانتباه والتأمل والتوقف عند نقاط الضعف الخفية، والحكاية كانت عن سدٍّ عظيم متين يبدو لناظره معجزة بشرية قادرة على توظيف عناصر الطبيعة لمصلحة رخاء البشر من تجميع ماء المطر، إلى ريّ الحقول بعيداً عن مزاج الطبيعة المتسم بالمحل والقحط، لكن المهندس الرئيسي كان قد جعل في أصل جدار السدّ حجرين صغيرين، إذا تمَّ انتزاعُهما انهار السدُّ العظيم وضاع جهدٌ بشريٌّ كبير، وحلّ الخراب واليباب!
على الروائي، وبمنتهى الموضوعية، أن يُحكم وضعَ الحجرين في مكان لا يسمح للبناء بالانهيار، قسا القارئ والناقد، أو تجاهلا!!