قرن من العلاقات الاستراتيجية بين دمشق وموسكو
بقلم: الشيخ سالم بن محمد بن أحمد العبري:
إذا كانت العلاقات الرسمية بين جمهورية روسيا الاتحادية والجمهورية العربية السورية قد أكملت عقدها الثامن، فإن المـُتَتَبِّعَ لثوابت السياسة الخارجية السورية، والمتعمق في فهمها يدرك – بكل جلاء ووضوح- أن تلك العلاقات الدولية أَسَّسَت لها الرؤيةُ العربيةُ السوريةُ الثاقبةُ إبان مقاومتها للاستعمار الغربي، الذي كانت تُمَثِّلُه آنذاك فرنسا، إذ إنها كانت في ذلك الحين تحتل سورية الكبرى، والمغرب العربي كاملاً تقريباً، بينما كانت بريطانيا تحتل فلسطين، والعراق، والجزيرة العربية، ومصر، وتعمل – بكل ما أُوتِيت من طاقة وإمكانات عسكرية وسياسية واقتصادية- على حشد الهجرة اليهـودية إلى فلسطين، لتتسنى لها إقامة الكيان الصهيوني الغاشم القابع في فلسطيـن الآن، وبذلك يتحقق وعد «بلفور» بإقامة دولة للصهاينة في الشرق الأوسط، وليتابع هذا الكيان الآثم وظيفة الدول الاستعمارية الإمبريالية في تفكيك وحدة الأمة وتفتيتها، وبعثرة شملها، وتشتيت جهودها، حتى لا تقوم لها قائمة، ولا تحصل فيها تنمية شاملة، ولا وحدة جامعة، ولا سوق مشتركة، ولا إرادة متحدة، فما قام هذا الكيان البغيض إلا لمنع قيام وحدة الأمة، والحيلولة دون ذلك بكل قَبِيلٍ وسبيل.
لقد أدركت سورية الاستراتيجية منذ مطلع القرن العشرين، وهي تقاوم الاستعمار الغربي الذي حَلَّ محل الدولة العثمانية، ليبدو لقائدهم- وهو يدخل دمشق- أنَّ الحرب الصليبية لم تَنْتِهِ بعد، وأنهم ما قدموا إلا لتجديدها، وإعادتها جذعة، وبصورة أسوأ، وبأسلوب أفحش، وبطريقة أبشع.. في الوقت الذي كانت فيه دمشق – قلب العروبة النابض- تُدْرِكُ إدراكاً بَيِّناً وبوضوح لا غَبَشَ فيه أنه لابُدَّ من بناء علاقات جيدة، وروابط استراتيجية قوية مع القوى المكافئة للقوى الاستعمارية الغربية، وكانت روسيا في تلك الأثناء – وهي مركز الاتحاد السوفييتي- تَتَحَمَّلُ وتُقَاوِمُ وتُضَحِّي لدَحْرِ الغزو الألماني، الذي مَثَّلَ قاعدة الحرب العالمية الثانية «1939 – 1945م»، لذا فقد مَدَّت سورية بصيرتها للاتحاد السوفييتي، وعاصمته موسكو، فأقامت العلاقات الدبلوماسية الاستراتيجية معه، وهي تكاد ترفع العَلَمَ الوطني – علم الاستقلال- في نيسان ١٩٤٤م، وهي إذ تحتفل – الآن- بمرور ثمانين عاماً على تلك العلاقات الاستراتيجية المـُتَمَيِّزَة والممتدة لقرابة قرن من الزمان، فإنها تُغْبَطُ وتُقَدَّرُ عَرَبِيّاً ودُوَلِيّاً، وذلك لأنها تَمَيَّزَت بتلك النظرة الثاقبة والرؤية الشاملة، وهذا العمق لجذور تلك السياسة الرائعة المركزية الضاربة في أطناب التاريخ، والتي لم تتأثر بمحطات الواقع الدولي، وشطحات الحركة العربية الطفولية، التي تصل –أحياناً- إلى العبثية، وتتسم بغير الوطنية، كما حَدَثَ بعد انقلاب السادات على العلاقات مع الكتلة الشرقية عَامَّة، ومع الاتحاد السوفييتي خاصَّة، وكيف ضَحَّى بعلاقات أساسية مع موسكو، ليكشف ظهره للغرب، وللرجعية العربية والعالمية، ثم ليُسَلِّمَهُ مصير المنطقة، والأمة، لكن سورية بقيادة القائد الراحل حافظ الأسد الواثقة المبصرة لتوجهات العالم، ولمواقع خطواتها عَمَّقَت علاقاتها مع روسيا باتفاقات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية واستراتيجية، وعلى الرغم من ضبابية الفترة الجروبتشافية – التي يطيب لي أن أشبهها بالحركة الساداتية- ثم انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي تبعته فترة «يلستن» الغوغائية، والتي لا يُمْكِنُ لمتابعٍ يَقِظٍ أو دارسٍ نابه لتاريخ روسيا وحضارتها وجغرافيتها ومكانتها في العالم، أن يَتَصَوَّر عبثية تلك الفترة، واستهانتها بالمكانة والقدرة والقوة الروسية، حتى أتى التصحيح.
لكن سورية كانت واثقة بأن تلك الفترة الرمادية ما هي إلا استثناء من عمر روسيا وإبائها وقوتها ومكانتها، لذلك انتظرت بثقة وبصيرة، واعتبرت التغير في روسيا ضرورة لروسيا، فهو حتمي لإرادة الله، فلا بُدَّ للغمة أن تنقشع، ولا يبقى الحال على وضع واحد مستمرّاً، وما هو إلا عقد واحد حتى أخذ الوضع الروسي في الاعتدال شيئاً فشيئاً، وبدت في الأفق خطوات التصحيح، واستقامة القامة الروسية، وأخذت روسيا بممارسة دورها بخطوات واعية، مُخْتَبِرَةً لما سموه الشركاء، وكلما بدا أن الغرب ليس شريكاً لأحد، وإنما هو مستعمر جاحد طامس لكل القوى، ليس للعالم الجنوبي فحسب، وإنما لروسيا ذات التاريخ القيصري، التي أنقذت ذلك الغرب من حرب هتلر الإبادية.
هنا أيقنت روسيا – وربما بمناقشاتها مع الحليف السوري- أن الغرب غرب، والشرق شرق، وأيقن الفريقان أن العربدة الغربية لا تعُاَلَجُ بالسياسة، ولا بالمؤسسات الدولية التي أفسدها الغرب باحتوائها، وتوجيهها نحو رؤيته المزدوجة المتناقضة البعيدة عن العدل والمساواة، والتي يكيلون فيها بمكيالين متباينين، ويزنون بمعيارين مختلفين.
وإذا كانت خطوات سورية نحو روسيا قد انطلقت من منظور وطني عربي، إلا أنها كشفت لروسيا أن الشرق «روسيا، والصين، والعرب، والإيرانيين، بل تركيا، أي: الشرق كله هو كتلة مختلفة جوهريّاً عن الغرب الذى مركزه بريطانيا – مُؤَسِّسَة الاستعمار والاستئثار- ووريثتها في هذا الشأن أميركا كتلة أخرى، وقد برهنت سورية وإيران لروسيا أنهما ظهيرتان وحليفتان لها، لتأتي خطوات روسيا تجاه سورية وإيران والمقاومة الوطنية العربية لمقاومة الحرب العالمية الغربية الصهيونية ضد سورية، هي الخطوة التي أظهرت افتراق الغرب الاستعماري المثلي عن الشرق الحضاري الديني، وتأتي زيارة الرئيس بشار الأسد إلى موسكو الأسبوع الماضي، والتي حظيت بالاحتفاء والتقوية للعلاقات الروسية – العربية السورية، تجسيداً لهذه الرؤية والمسيرة الاستراتيجية، فموسكو التي تُناصرُ دائماً السِّلْمَ العالمي، والعدل، وحقوق الشعوب تستقبل الدكتور بشار الأسد بوصفه القابض على الحق، والمُمثل للنضال والجهاد الحق في المنطقة، والمـُمَثِّل لمحور المقاومة، والذي بجهاده مع جهاد روسيا سيتغير العالم من عالمٍ قُطْبِيٍّ واحد إلى عالم متعدد الأقطاب، وليسود النظامَ العالميَّ العدلُ والحق والمساواة والخير والسلام والاستقرار.
نقلاً عن جريدة «عالم الثقافة» العُمانية